المجلس الإستراتيجي أونلاین - مذكرة: في الأيام الأخيرة، شهدت علاقات بروكسل مع مينسك توتراً جديداً. فقد أجبرت الحكومة البيلاروسية الطائرة التي كانت تقل رومان بروتاسوفيتش، عندما اعترضتها بطائرة مقاتلة على الهبوط في مينسك، لإلقاء القبض على هذا الصحفي البيلاروسي المناهض للحكومة، الذي كان على متن طائرة خطوط ريان الجوية في رحلة من اليونان إلى ليتوانيا. وصف زعماء الاتحاد الأوروبي تحرك حكومة لوكاشينكو بأنه قرصنة جوية، و في المقابل يرى لوكاشينكو فرض العقوبات من جانب الاتحاد الاوروبيّ، محاولة لاستفزاز خصومه الداخليين وخلق حالة من عدم الاستقرار في بيلاروسيا.
عليرضا ثمودي - خبير في شؤون أوروبا
رد فعل الاتحاد الأوروبي على إجراءات بيلاروسيا
ندد الزعماء الأوروبيون بخطوة بيلاروسيا لإعادة الطائرة المذكورة، قائلين إنهم سيفرضون عقوبات جديدة، و إذا لم يتراجع لوكاشينكو عن سياساته، فسيتم فرض المزيد من العقوبات عليه، مما يمثل بداية لدورة طويلة من العقوبات؛ كما أدان المجلس الأوروبي في إجتماعه بشدة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة البيلاروسية، و دعا إلى إطلاق سراح رومان بروتاسوفيتش وإجراء تحقيق مستقل بهذا الشأن. كذلك دعت المفوضية الأوروبية إلى تغيير النظام في بيلاروسيا، معلنة أنه سيتم تقديم ثلاثة مليارات يورو من المساعدات عندما يحدث الانتقال إلى الديمقراطية. كما قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إن العقوبات يجب أن تكون فعالة و أن تستهدف القطاعات التجارية البيلاروسية المهمة لاقتصاد الدولة، و تمنع إصدار السندات المالية الحكومية من قبل بيلاروسيا؛ لأن سلوك لوكاشينكو لا يمكن التنبؤ به.
العقوبات؛ الأداة الغربية المفضلة في السنوات الأخيرة
في السنوات الأخيرة، أصبح فرض العقوبات الاقتصادية أداة مفضلة لكثير من السياسيين الغربيين، بما في ذلك المحاصرة أو حظر التجارة مع إحدى الدول أو فرض عقوبات على مختلف الأفراد والمؤسسات. فيما يخص بيلاروسيا، فرضت الدول الأوروبية والولايات المتحدة عقوبات مختلفة عليها خلال حكم لوكاشينكو المستمر منذ 27 عاماً. فقد فرض الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، حظر توريد الأسلحة على مينسك في عام 2004 بعد اختفاء بعض الشخصيات المعارضة، صحفي ورجل أعمال بيلاروسي. في عام 2016، تم رفع معظم هذه العقوبات بعد تحسن العلاقات بين الجانبين. ومع ذلك، بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2020 وتشكيل احتجاجات واسعة النطاق، وبالطبع قمعها من قبل الحكومة، فرض الاتحاد الأوروبي مزيداً من العقوبات وفُرضت عقوبات على 88 فرداً وسبع مؤسسات. بالإضافة إلى حظر الطائرات البيلاروسية من استخدام المجال الجوي للاتحاد الأوروبي، وكذلك حظر الطائرات الأوروبية من التحليق فوق بيلاروسيا، فسيتم فرض عقوبات اقتصادية جديدة. سيكون تجميد الأصول وحظر التأشيرات لأكثر من 80 مسؤولاً بيلاروسياً، بما في ذلك لوكاشينكو و ابنه، بتهمة قمع المعترضين على نتائج انتخابات اغسطس من العام الماضي، جزءاً من إجراءات الاتحاد الأوروبي. في الأسبوع الذي سبق فرض العقوبات الجوية، تم إجراء 3300 رحلة جوية فوق بيلاروسيا، هبطت 66 رحلة منها في هذه الدولة. يصل الدخل اليومي لبيلاروسيا من هذه الرحلات إلى سبعين ألف يورو. على الرغم من أن هذا الرقم مهم، إلا أنه في النهاية لا يمكن أن يكون له تأثير كبير على الاقتصاد البيلاروسي. كما صرح كذلك الرئيس الأمريكي بايدن أنه يدرس الخيارات المناسبة بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي لتكون بيلاروسيا مسؤولة عن أفعالها. و قد حظرت واشنطن أيضاً التعامل مع 9 شركات نفط وبتروكيماويات كبرى وفرضت عقوبات على 109 من مسؤولي هذه الدولة.
رد فعل بيلاروسيا و روسيا على عقوبات الاتحاد الأوروبي
كان رد فعل الحكومة البيلاروسية على عقوبات الاتحاد الأوروبي بمثابة تهديد بالانتقام والمعاملة بالمثل. فعلى سبيل المثال، حذّر لوكاشينكو قبل لقائه مع فلاديمير بوتين في سوتشي، من أن “هذه الدولة لن تمنع بعد الآن المهاجرين والمخدرات من الدخول لأوروبا الغربية، ويجب على الغرب مواجهة هذه التحديات بمفرده”. كما قال: “إنه سوف يستبدل آسيا سريعة النمو محلّ أوروبا العجوزة”. يرى لوكاشينكو أن العقوبات الأوروبية هي حرب هجينة لتدمير بيلاروسيا بالتعاون مع الأعداء الداخليين والأجانب الذين غيروا طريقتهم في مهاجمة الحكومة البيلاروسية؛ وبالطبع فإن الهدف التالي سيكون روسيا. قال مسؤول بوزارة الخارجية الروسية رداً على العقوبات الأوروبية إن روسيا ستدافع عن بيلاروسيا وتدعمها. كما وصف وزير الخارجية الروسي لافروف تصرفات لوكاشينكو بأنها معقولة تماماً ودعا الدول الأخرى إلى إجراء تقييم دقيق للوضع. وقد ألغت موسكو بعض الرحلات الجوية من دول أوروبية، بينها فرنسا والنمسا، ولم تسمح لطائرات هذين البلدين بدخول المجال الجوي الروسي. جاء تحرك موسكو هذا بعد تنفيذ إجراء الاتحاد الأروبي القائل بضرورة التزام شركات الطيران الأوروبية بتغيير مسارات رحلاتها المعتادة، وعدم عبور المجال الجوي البيلاروسي؛ و هكذا يحرم مينسك من ملايين الدولارات من العائدات.
تحديات الاتحاد الأوروبي في بيلاروسيا
بيلاروسيا، مثل أرمينيا، لديها هويات “حبّ أوروبا” و “حبّ روسيا” وتعتمد على المساعدة التقنية والاقتصادية من روسيا والاتحاد الأوروبي، و في السنوات الأخيرة، أصبحت مثل أوكرانيا، ساحة معركة بين الغرب وروسيا. لطالما أطلق الاتحاد الأوروبي على لوكاشينكو لقب آخر ديكتاتور أوروبي و يسعى الاتحاد إلى إخراج بيلاروسيا من دائرة النفوذ الروسي، لكن في الوضع الحالي، يبدو أن هذا الأمل قد اختفى. ومع ذلك، لا تزال بروكسل تحاول تغيير القيادة البيلاروسية من خلال تقديم الحوافز والتهديدات. ويعتقد البعض، أن مينسك لن تواجه تحدياً خطيراً، نظراً لهيمنة الشركات المملوكة للدولة على الاقتصاد البيلاروسي واعتماد الاقتصاد البيلاروسي على روسيا؛ لأن ما يقرب من نصف سلع بيلاروسيا يتم تصديرها إلى روسيا و 24٪ منها فقط تذهب إلى الاتحاد الأوروبي. بالطبع، هناك خلاف بين الحكومات الغربية حول شدة العقوبات. فالبعض يعتقد بأنه يجب تحقيق توازن بين معاقبة المسؤولين البيلاروسيين و تجنب توثيق علاقات هذا البلد مع روسيا. في الواقع، هناك مخاوف من أن العقوبات الواسعة النطاق والعميقة يمكن أن تضر بتجارة بيلاروسيا دون أن يتخلى لوكاشينكو عن سياساته. في المقابل، يعتقد البعض أن الإجراءات الأخيرة لبيلاروسيا تظهر أن لوكاشينكو قد أدار ظهره للغرب بالكامل ولا يشعر بالقلق بشكل خاص من ردود أفعال المجتمع الدولي. يمكن القول إن الطريقة الوحيدة للضغط على بيلاروسيا هي إضعاف العلاقات الوثيقة بين مينسك وموسكو، و أن فرض قيود على الطيران يمكن أن يكون أكثر فعالية من العقوبات القطاعية، لأنه في غياب السلع والآلات الأوروبية، يمكن لروسيا توفير هذه الخدمات، ولكن لا يوجد شريك بديل للمطارات والمجال الجويّ للإتحاد الأوروبي.
بشكل عام، يمكن القول إن الاتحاد الأوروبيّ ليس لديه نفوذ كافٍ للتأثير على مينسك، ولكي يكون لاعباً فاعلاً في بيلاروسيا، وبالطبع ناشطاً جيوسياسياً، عليه أن يقبل الحقائق المرة عن نفسه. فقد تحسنت العلاقات بين بروكسل ومينسك بين عامي 2014 و 2020، وكان لدى الاتحاد الأوروبي فرصة جيدة لتعزيز موقعه في بيلاروسيا ليصبح لاعباً مهماً في البلاد؛ ومع ذلك، ضاعت هذه الفرصة. وقد أعرب لوكاشينكو في تلك الفترة مراراً وتكراراً عن اهتمامه بتعميق العلاقات مع بروكسل، لكن بروكسل وضعت شروطاً مسبقة في المقابل. من ناحية أخرى، لا يمكن لروسيا أن تقبل الإطاحة بزعماء الدول الأجنبية القريبة من خلال الثورات ذات الصبغة الغربية، مما يؤدي إلى ظهور قادة إما مناهضين لروسيا أو لا يمكن التنبؤ بهم. ولهذا السبب، يفضل الروس بیضة اليوم على دجاجة الغد كما يقال في المثل. فموقف روسيا هذا لن يتغير ولا يستطيع الاتحاد الأوروبي فعل أي شيء في هذا الشأن.
0 تعليق