المجلس الاستراتيجي اونلاين ـ رأي: بدأت رسمياً يوم السبت 27 يناير/كانون الثاني المباحثات بين المسؤولين العراقيين والأميركيين لإنهاء المهمة العسكرية التي تسمى التحالف "ضد داعش" في العراق. وبطبيعة الحال، قبل ذلك وفي الأشهر الستة الماضية، جرت المفاوضات بين الجانبين بطريقة غير رسمية وعلى مستوى الخبراء.
برسام محمدي ـ خبير في القضايا الإقليمية
في الجولة الأولى من المفاوضات، التي جرت بحضور رئيس الوزراء العراقي، اتفق الطرفان على تشكيل ثلاث لجان خاصة حول موضوعات “تقييم ومراجعة مستوى تهديدات داعش” و”المتطلبات العملياتية والظرفية” و” تعزيز قدرة القوات العسكرية والأمنية العراقية”.
سوف تقوم اللجان الثلاثة بتدوين “خارطة طريق” لانسحاب القوات الأمريكية من العراق بعد تقييم النتائج والظروف والمسارات الحالية، بما في ذلك تقديم رؤية عن التهديد الذي يشكله تنظيم داعش، والوضع الأمني في العراق على مختلف المستويات، وخاصة في مكافحة داعش وانعدام الأمن، فضلاً عن المتطلبات التي تجعل الجيش العراقي يعتمد على قدراته.
لا شك أن القوات والقواعد العسكرية والأمنية الأمريكية هي أحد العوامل الرئيسية لعدم الاستقرار وانعدام الأمن والخلافات السياسية والفئوية والمشاكل الاقتصادية في العراق. ولذلك فإن انسحاب أمريكا من العراق هو المطلب الأهم للشعب ومختلف القوى السياسية وحكومة هذا البلد، وهو ما وافق عليه أعضاء البرلمان أيضاً. وحتى في الأشهر الأخيرة، تزايدت المشاعر المعادية للولايات المتحدة في العراق باستمرار، ويطالب الشعب العراقي بقوة بطرد القوات الأمريكية من بلده.
لكن بالنظر إلى التطورات المرتبطة بمحادثات بغداد وواشنطن الأخيرة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت الحكومة الأمريكية تفكر حقاً في سحب قواتها العسكرية من العراق وتفكيك قواعدها من هذا البلد؟
ومن خلال التأمل في نص البيان الختامي للجولة الأولى من المحادثات وتصريحات بعض المسؤولين الأميركيين، نستطيع أن نعطي إجابة واضحة على هذا السؤال؛ أصدرت وزارة الدفاع الأميركية بياناً، الخميس 25 يناير/كانون الثاني، قبل إجراء المفاوضات مع الجانب العراقي: “ستجرى هذه المحادثات ضمن اللجنة العسكرية المشتركة (HMC) التي تم الاتفاق عليها الصيف الماضي وسيكون هناك نقاش حول التحرك نحو شراكة أمنية ثنائية مستقرة بين العراق والولايات المتحدة”.
في غضون ذلك، أكد بيان الحكومة العراقية على التخفيض التدريجي لعدد “مستشاري التحالف الدولي” وإنهاء “مهمة محاربة داعش” مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق. وفي الواقع، من وجهة نظر الولايات المتحدة، وبحسب ما جاء في بيان البنتاغون، فإن المحادثات ستركز على التعاون الأمني الأوسع، وليس الانسحاب العسكري من العراق.
ويظهر هذا التناقض بوضوح أن الأمريكان ليس لديهم أي نية لمغادرة العراق، بل فضلاً عن ذلك إنهم يسعون من خلال اللجنة العسكرية العليا المشتركة إلى تحديد الأرضية الحقوقية والقانونية من خلال اتفاق مع الحكومة العراقية لـ “الحفاظ” على تواجدهم في هذا البلد بأشكال أخرى و ما يسمى بأكثر تبريراً.
وقبل ذلك، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، في 4 مايو/أيار 2023، في كلمة ألقاها في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أثناء إعلانه عن “التزام واشنطن الراسخ تجاه المنطقة” عن الأولويات المحيّنة لإدارة بايدن لغرب آسيا، من خلال تحديد خمسة أطر جديدة، وهي “الشراكة والردع والدبلوماسية وتخفيف التوتر ودمج القيم” لتفاعل الولايات المتحدة مع دول المنطقة.
وفي الواقع، يشكل هذا جزءاً من خريطة طريق كاملة صممتها الولايات المتحدة لتعزيز السياسات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وما إلى ذلك، في غرب آسيا.
إضافة إلى ذلك فإن التطورات في الأراضي المحتلة والتطورات في البحر الأحمر والوضع المتوتر وغير المستقر للكيان الصهيوني والالتزامات الذاتية التي تقع على عاتق البيت الأبيض في دعم هذا الكيان هي من بين المؤشرات الأخرى التي تثير الشك في الانسحاب الكامل والنهائي من العراق، وإن تواجدهم هناك أمر ذو أهمية استراتيجية للولايات المتحدة، وأحد الركائز الجيوسياسية للولايات المتحدة في احتواء الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجبهة المقاومة وضمان أمن الكيان الإسرائيلي.
ولذلك فإن استخدام مفهوم “الشراكة الثنائية” بدلاً من “الانسحاب من العراق” في بيان وزارة الدفاع الأمريكية وبيان جيك سوليفان المعلن باعتباره استراتيجية حاسمة للولايات المتحدة في غرب آسيا، يظهر بوضوح أن الحكومة الأمريكية تشارك في المحادثات الثنائية مع بغداد بنهج مستنزف للوقت ومضلل، وعلى الرغم من مزاعمها، فهي لم تكن تسعى إلى الانسحاب العسكري من المنطقة والعراق، وفضلاً عن ذلك تبحث عن “خطة طويلة الأمد” لتعزيز وجودها في المنطقة، بالطبع، مع اعتبارات وحساسيات ومتطلبات خاصة ما تسمى بالأقل استفزازاً.
يكشف مجمل القضايا المذكورة أن الولايات المتحدة لا تتطلع إلى مغادرة العراق، ولا تزال تحاول الحفاظ على وجودها الأمني وتعزيزه بشكل محدّث ومعقّد. وحتى لو افترضنا أن القوات العسكرية الأميركية تغادر قواعدها في العراق، فمن المحتمل أن تستمر في نشر قواتها في إقليم كردستان، الذي يتمتع بعلاقات أوثق مع واشنطن بالإضافة إلى محاولتها استبدال حضورها بشكل آخر من الوجود والنفوذ.
كما لا بد من الانتباه إلى أن الوجود الأمني يكون في بعض الأحيان أكثر تهديداً من الوجود العسكري، ولكن بشكل خفي ومعقد، وهو ما توليه الحكومة العراقية اهتماماً خاصاً في مباحثاتها مع الولايات المتحدة، لأن التجربة أثبتت أن الولايات المتحدة ليست موثوقة. أي أن اليد التي مدتها إلى العراق، بحسب الأدلة المتوفرة، هي «يد من حديد» متلبسة بقفاز مخملي.
0 تعليق