المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي: بينما تدخل أوروبا شتاءها الثاني منذ إغلاق خطوط أنابيب الغاز الروسي، إلا أنها تمكنت من تسجيل رقم قياسي جديد في حجم احتياطياتها من الغاز. بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وضعت أوروبا خطة أزمة لتقليل اعتمادها على الوقود الروسي، والتي بموجبها ينبغي استكمال مستوى تخزين الغاز بنسبة 65% بحلول أغسطس/آب 2023، و 80% بحلول أكتوبر/تشرين الأول، و 90%. بحلول نوفمبر/تشرين الثاني. لكن بعد نهاية الصيف الحالي، وقبل شهرين من الموعد المحدد، تم الانتهاء من مستوى تخزين الغاز بنسبة 90%.
حميدة صفامنش ـ باحثة في العلاقات الدولية
حسب تقرير وكالة الطاقة الدولية، وفي مسعى لتقليل الاعتماد على روسيا، تمكن الاتحاد الأوروبي من خفض استهلاك الغاز بنسبة 13% في عام 2022 وهو قريب من هدف التخفيض البالغ 15%. ووفقاً لهذه المنظمة الدولية، فإن التغيرات السلوكية عميقة للغاية لدرجة أنها قد تبشر بعصر جديد من كيفية استهلاك الطاقة.
خرجت ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من البلدان الأوروبية التي تعتمد على الغاز من الاعتماد على روسيا دون أن تعاني من نقص كبير في الطاقة، وتغيرت البنية القديمة لأسواق الطاقة العالمية بشكل لا رجعة فيه.
ومع ذلك، يعتقد خبراء الطاقة أن أوروبا لم تتعرض أبداً لصدمات الأسعار في السوق العالمية لهذا المستوى. لا تزال إمدادات السوق محدودة، وهناك العديد من الاضطرابات المحتملة في السوق العالمية المتشابكة. ومن وجهة النظر هذه، فإن أزمة الطاقة في أوروبا لم تنته بعد، علاوة على ذلك، تشعر الصناعات الأوروبية بالقلق من أن التدخل الحكومي في إمدادات الطاقة سيؤدي إلى إضعاف أداء السوق.
وتخشى الحكومات الأوروبية أن تؤدي أسعار الطاقة المرتفعة إلى إجبار الصناعات على الهجرة من هذه القارة وتكثيف عملية الاستغناء عن الصناعة. وفي هذا الصدد، تحاول أوروبا تحقيق التوازن في السوق من خلال الاستفادة من المصادر الجديدة للغاز الطبيعي المسال في أمريكا وقطر، فضلاً عن تسريع استخدام الطاقة المتجددة وإطلاق جيل جديد من محطات الطاقة النووية.
ومن المتوقع أن يظل الاتحاد الأوروبي مضطراً إلى شراء نحو 22 مليار متر مكعب غاز من روسيا هذا العام. ويعادل هذا الرقم 11% من إجمالي غاز الأنابيب المستخدم في هذه المنطقة في عام 2022. ويأتي جزء كبير منه عبر أوكرانيا، وبالنظر إلى أنه من غير المرجح أن يتم تجديد اتفاقية العبور الحالية بين روسيا وأوكرانيا بعد انتهاء صلاحيتها في عام 2024، فإن طريق الإمداد هذا معرض للخطر.
والآن أصبحت الأسعار في سوق الغاز الأوروبية معرضة لآثار الصدمات إلى حد أن أنباء إضراب العمال في أحد مشاريع الغاز في أستراليا تسببت في ارتفاع أسعار الغاز في السوق الأوروبية بما يزيد على 40% في يوم واحد؛ على الرغم من أنه من النادر أن تقوم أستراليا بتزويد أوروبا بالغاز. وأيضاً، عندما احتاج خط أنابيب الغاز النرويجي إلى تصليحات بسبب زيادة الحمولة الزائدة، ارتفع سعر الغاز في أوروبا بشكل كبير.
في عام 2015، كانت واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال من أمريكا صفراً، لكن في العام الماضي، استوردت هذه القارة ما يقرب من 64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال من أمريكا، وهو ما يثير قلق أوروبا من هذا المستوى من الاعتماد على أمريكا في إمدادات الغاز.
وبذلت الدول الأوروبية في الأشهر الماضية جهوداً كثيرة لتقليل كمية الغاز والبنزين التي تستهلكها الأسر من خلال انتهاج بعض السياسات. توقفت الحكومة البريطانية عن دعم فواتير الطاقة المنزلية قبل أن تتمكن من وضع اللمسات الأخيرة على خطتها لزيادة إنتاج الطاقة المحلي. وفي ظل هذا الوضع فإن الأسر البريطانية التي تأخرت في سداد فواتير الطاقة تدين بمبلغ 2.25 مليار جنيه إسترليني، وهو ما زاد بنسبة تزيد على 70% في السنوات الثلاث الماضية.
وفي الماضي، كانت بريطانيا تستورد 2% فقط من استهلاكها من الغاز من روسيا. ركزت هذه الدولة طرق إمدادات الغاز على الواردات عبر خط الأنابيب النرويجي والواردات واسعة النطاق من الغاز الطبيعي المسال. وفي العام الماضي، سجلت المملكة المتحدة واردات قياسية بلغت 25.6 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال، وهو ما يعادل حوالي 45% من إجمالي الطلب على الغاز في البلاد.
تعتبر مرافق تخزين الغاز البريطانية من أصغر المرافق في أوروبا، مقارنة باستهلاك الغاز في هذا البلد، لذلك لا تزال هذه الدولة معرضة لتأثير كبير لصدمات الأسعار في سوق الغاز العالمية.
قبل حرب أوكرانيا، كانت ألمانيا تحصل على نصف احتياجاتها من الغاز عبر خطوط الأنابيب من روسيا، ولكن بعد ذلك، بإعلانها عن الحاجة إلى خفض استهلاك الغاز بنسبة 20%، أظهرت قدراً أكبر من الاهتمام بكفاءة استخدام الطاقة مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي الأخرى. فقد استخدمت هذه الدولة غازاً طبيعياً أقل بنسبة 15٪ تقريباً في العام الماضي وبالطبع كان الشتاء المعتدل نسبياً مؤثراً أيضاً في هذا الاتجاه.
كما أدرجت ألمانيا في جدول أعمالها زيادة واردات الغاز من خط أنابيب هولندا والنرويج وتطوير ثلاث محطات جديدة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال. ويتطلع مشترو الغاز في هذا البلد إلى توقيع عقود لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر والإمارات العربية المتحدة.
قبل الحرب، كانت فرنسا توفر 17% فقط من احتياجاتها من الغاز من روسيا، مما يجعلها أقل اعتماداً على روسيا من بعض جيرانها الأوروبيين. وتعتمد هذه الدولة بشكل أقل بكثير على الغاز من خلال محطات الطاقة النووية، إلا أن فرض العقوبات على روسيا جعل باريس تواجه مشاكل خطيرة في إمداد محطات الطاقة النووية بالوقود في العام الماضي. وزادت هذه المشكلة من احتمالية انقطاع الكهرباء في الشتاء القادم.
وفي هذا الوضع، اتخذت الحكومة الفرنسية إجراءات لتقليل استهلاك الطاقة في البلاد، مما يمكن أن يوفر 10% بحلول عام 2024 و40% بحلول عام 2030 مقارنة بعام 2019.
على الرغم من أن إسبانيا لا تعتمد على مصادر الطاقة الروسية مثل بعض دول الاتحاد الأوروبي بسبب وجود سلسلة من محطات استيراد الغاز، إلا أنها اتخذت تدابير لضمان إمداداتها من الطاقة في فصل الشتاء وتمكنت من خفض الطلب على الغاز بنسبة 21٪ بين أغسطس/آب 2022 و مارس/آذار من هذا العام. وأصبحت بولندا وبلغاريا أول دول الاتحاد الأوروبي التي خفضت وارداتها من الغاز من روسيا في إبريل/نيسان الماضي، عندما أعلن الكرملين أن مدفوعات الغاز يجب أن تتم بالروبل. وفي ذلك الوقت، كان ما يقرب من نصف الغاز البولندي يستورد من سيبيريا عبر خط أنابيب “يامال”. ولكن على عكس ألمانيا، التي تعتمد على الغاز لإنتاج حوالي 15% من احتياجاتها من الكهرباء، تنتج بولندا معظم طاقتها من الفحم. ومن خلال تسريع وارداتها من خلال محطات الغاز الطبيعي المسال، أبرمت هذه الدولة عقداً مدته 20 عاماً مع الولايات المتحدة لاستيراد مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً في أوائل عام 2023.
مجمل القول؛ أن اعتماد الدول الأوروبية المتزايد على الغاز الطبيعي المسال جعلها عرضة لتقلبات السوق، خاصة وأن 70% من هذه الواردات يتم شراؤها من خلال عقود قصيرة الأجل، بدلاً من استخدام العقود طويلة الأجل لمؤشر النفط السائد في آسيا. ورغم أن أوروبا حققت نصراً جيواقتصادياً، فإن مشاكل الطاقة في أوروبا لن تُحل بالكامل قبل أواخر عام 2024 أو أوائل عام 2025، وقد ظلت تعتمد بشكل كبير على واردات الغاز الطبيعي المسال لسنوات عديدة.
0 تعليق