المجلس الإستراتيجي أونلاين ـ رأي الضيف: إن الأوضاع في أوروبا أشبه ما يكون اليوم بفترة السلام المسلح ما قبل الحرب العالمية الأولى؛ فترة من عدم الاستقرار مهدت لحرب عالمية وشاملة في أوروبا. انتهك الهجوم الروسي على أوكرانيا وحدة أراضي دولة أوروبية لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية وقد ازداد احتمال تكرار هذا الحدث مستقبلاً.
سيد قاسم ذاكري ـ خبير في الشؤون الدولية
خلافاً لما كان يتوقعه الكثيرون في العالم، شنت روسيا هجومها العسكري على أوكرانيا؛ الحدث العسكري الأهم في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. رغم ما شهدته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من أحداث وحروب دموية مثل الحروب المختلفة التي اشتعلت في أراضي يوغوسلافيا السابقة في التسعينات، تكمن أهمية الحرب الأوكرانية في خوض القوى العظمى النووية الحرب بشكل مباشر وغير مباشر، وكذلك انتهاك المبدأ المقدس المتمثل في وحدة أراضي الدول. بعد اندلاع الحرب بوقت قصير، حذر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأن هذه حرب طويلة الأمد ويجب على أوكرانيا الاستعداد لأيام عصيبة جداً. لا شك في أن كل حرب تنطوي على مخاطر لا يمكن التنبؤ بها واستطالة أمد الحرب تزيد من احتمال تفاقم تلك المخاطر. بشكل طبيعي، تتعرض الدول التي تخوض الحرب مباشرة لمخاطر أكثر، لكن من الواضح أن استطالة أمد أي حرب توسع نطاقها وتحصد مزيداً من الأرواح حتى في المناطق المجاورة التي لم تكن في البداية تشارك في الحرب بشكل مباشر، ظاهرياً على الأقل.
إن السمة الخطيرة للغاية في الحرب الأوكرانية هي وجود احتمال مرتفع لاتساع نطاقها. ستكون للحرب الأوكرانية، خلافاً لحرب جورجيا في عام 2008، آثار كبيرة جداً عالمياً؛ بحيث يمكن اعتبار هذه الحرب عاملاً لتغيير قواعد اللعبة في النظام الدولي. ستترك هذه الحرب آثاراً مصيرية على روسيا وأوروبا وحلف الناتو لا محالة. كما من المحتمل جداً أن تترك آثاراً مهمة على الولايات المتحدة وبريطانيا ومناطق أخرى في العالم. الأهداف التي أعلنتها روسيا للحرب في أوكرانيا والتي تستهدف الناتو مباشرة تؤشر بوضوح على أبعادها الخطيرة؛ لأن في مثل هذه الحروب، عادة ما لا يرضى أي طرف بقبول الهزيمة بسهولة، بل يملك كل من الطرفين دافعاً قوياً لخوض القتال وتوجيه الضربات للطرف الآخر. وصفت روسيا هذه الحرب بمعركة وجودية ويسعى بوتين إلى توظيف المشاعر القومية في روسيا على أوسع نطاق لمواصلة الحرب. في المقابل، ترى الولايات المتحدة بأن أي تنازل في هذه الحرب سيكون بمعنى ضياع النفوذ الأمريكي في أوروبا وانهيار الناتو. تصريحات مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي أي)، وليام بيرنز، بشأن قرار بوتين وضع قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهب قصوى تدل على أنه يدرك المخاطر الحقيقية للحرب في أوكرانيا؛ إذ قال بيرنز بصراحة إن الولايات المتحدة تأخذ في حساباتها احتمال لجوء روسيا إلى استخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية. يرى بيرنز أن احتمال استخدام روسيا أسلحة نووية تكتيكية كبير جداً.
في ساحة المواجهة، أتت روسيا بكامل امكانياتها ومصداقيتها إلى الميدان وأظهرت أن أوكرانيا بالنسبة لها ليست مثل العراق أو أفغانستان أو فيتنام بالنسبة للولايات المتحدة والتي لم تكن على صلة مباشرة ببقاء الدولة الغازية وأمنها. رغم تكبّد روسيا خسائر عسكرية واقتصادية هائلة بسبب الحرب في أوكرانيا، سيُعدّ امتناع الناتو عن خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا في أوكرانيا سلوكاً ناجماً عن التنصل من مسؤوليته؛ لأن أوكرانيا، بصفتها شريكاً رئيساً للناتو، دُمِّرت بسبب طلبها الانضمام لهذا الحلف. إن تنصل الناتو من إيجاد ردع فعال لمنع الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، قد يفضي بسهولة إلى اتساع رقعة الحرب وامتدادها إلى الدول الأعضاء في الناتو في حال استطالة أمدها؛ لأنه ليس من الواضح كم سيختلف رد الناتو على هجوم روسيا وبيلاروسيا العسكري على جمهوريات البلطيق الأعضاء في الناتو عن رده على الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا؟ وإلى أي مدى تستعد دول الناتو لخوض حرب ضد روسيا للدفاع عن جمهوريات البلطيق أمام هجوم عسكري روسي؟ تكمن أهمية هذا السؤال في أن استطالة أمد الحرب الأوكرانية ستضر بقدرة ردع الناتو أمام الإجراءات الروسية المحتملة؛ مثلما امتنع الناتو عن الرد على الهجمات العديدة التي استهدفت أهدافاً في العراق وسوريا تابعة للولايات المتحدة وتركيا، كعضوين في الناتو.
حذرت المرشحة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، مارين لوبان، من أن إرسال المعدات العسكرية من الغرب إلى أوكرانيا قد تجرّ الدول الغربية إلى حرب مع روسيا بسبب أوكرانيا. في السياق ذاته، فإن تحذير روسيا للغرب بشأن عواقب لا يمكن التنبؤ بها إذا استمر الناتو والغرب في إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا، يحظى بأهمية بالغة. تصف روسيا إرسال الأسلحة الحساسة من الغرب إلى أوكرانيا بصب الزيت على النار وخطوة قد تطال تداعياتها الدول الغربية الأخرى.
تسببت العوامل التالية، كالنار تحت الرماد، في نشوء تهديدات وتحديات جمة للاستقرار والأمن الأوروبي:
– أزمة اللاجئين الأوكرانيين.
– الأزمات الاقتصادية والأمنية المقبلة التي نجمت كلها عن الحرب الأوكرانية.
– الافتقار إلى مبادرة فاعلة من قبل أوروبا بسبب تبعيتها المفرطة لقرارات واشنطن؛ أوروبا ليست جاهزة لا للحرب ولا لتبنّي تسوية سياسية للأزمة.
– تكديس الأسلحة في أوروبا وزيادات هائلة في الميزانيات العسكرية في هذه القارة.
– انعدام التماسك المطلوب في أوروبا أمام روسيا؛ بعض الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو لم تقبل بالمشاركة في العقوبات ضد روسيا، والبعض الآخر مثل المجر تتخذ مواقف صريحة في تأييد موسكو. أما فرنسا فتواجه على المستويين الحكومي والشعبي تردداً كبيراً بشأن ممارسة عداء بالغ ضد روسيا.
– احتمال اتصال النقاط المتأزمة في أوروبا إلى بعضها (أوكرانيا والبلقان ومولدوفا)
– التنامي المطرد للنزعات القومية في أوروبا والتي ظهرت جلياً في الانتخابات الأخيرة في المجر وفرنسا وصربيا. فضلاً عن ذلك، فإن الأجواء الحقيقية للرأي العام الأوروبي ليست ضد روسيا بل تسود عليها حالة من اللامبالاة على الأغلب. فالمواطنون الأوروبيون غير مستعدين لدخول حرب مع روسيا.
إن الأوضاع في أوروبا أشبه ما يكون اليوم بفترة السلام المسلح ما قبل الحرب العالمية الأولى؛ فترة من عدم الاستقرار مهدت لحرب عالمية وشاملة في أوروبا. انتهك الهجوم الروسي على أوكرانيا وحدة أراضي دولة أوروبية لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية وقد ازداد احتمال تكرار هذا الحدث مستقبلاً.
0 تعليق