المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي: في الأسابيع الأخيرة، تصاعد التوتر الكلامي بين واشنطن وتل أبيب بشأن حرب غزة مما دفع بعض المراقبين الدوليين إلى تفسير ذلك على أنه خلاف بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، بل وتحدث البعض عن أول "صدع" في العلاقات بين الجانبين منذ 76 عاماً.
برسام محمدي ـ خبير في الشؤون الإقليمية
بينما استشهد في غزة أكثر من 30 ألف مدني، بينهم نساء وأطفال، ولم تتخذ الإدارة الأمريكية أي إجراءات فعالة لوقف آلة القتل الصهيونية في غزة، إلا أن الهجوم على قافلة عمال الإغاثة الدوليين الذي أدى إلى مقتل سبعة من موظفي “المطبخ المركزي العالمي”، وهي منظمة دولية غير حكومية، إلى تفاقم الخلافات بين واشنطن وتل أبيب، بحيث أفاد موقع “أكسيوس” الأمريكي أن المحادثة الهاتفية الأخيرة بين بايدن ونتنياهو، والتي استمرت لأكثر من 30 دقيقة، كانت “متوترة ومليئة بالتحديات”.
وصرح جون كيربي، المتحدث باسم البيت الأبيض ومنسق مجلس الأمن القومي الأمريكي للاتصالات الاستراتيجية، بعد المحادثة الهاتفية بين بايدن ونتنياهو: “إذا لم نشهد تغييراً في سياسات إسرائيل، فإن نهجنا سيتغير”. وقال السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز أيضاً: “لا يمكن استجداء نتنياهو للتوقف عن قصف المدنيين وفي اليوم التالي نرسل له آلاف القنابل.”
وفيما يتعلق بالخلافات التي نشبت بين تل أبيب والبيت الأبيض وطبيعة هذه الخلافات والتوترات، وما إذا كانت مثل هذه التوترات يمكن أن تلقي بظلالها على العلاقات الاستراتيجية بين الجانبين، هناك نقاط مهمة نشير الى أهمها كما يلي:
أولاً؛ وبالنظر إلى تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وأبعادها الاستراتيجية، والتزام الإدارة الأمريكية بضمان أمن الكيان الصهيوني تحت أي ظرف وبأي ثمن، فمن الواضح تماماً أن الخلافات الراهنة، وإن تسبب تغييراً نسبياً في نهج الجانبين على مستوى معين، لكنها على المستوى الكلي لا تضر بالأسس الاستراتيجية للعلاقات بين تل أبيب وواشنطن والالتزام الاستراتيجي للولايات المتحدة تجاه الكيان الصهيوني.
في هذه العلاقات، ينبغي اعتبار الخلافات الحالية “تكتيكية” ومؤقتة. وبعبارة أوضح، فإن الخلافات الحالية ليست في الأساس بين “الولايات المتحدة” و “الكيان الإسرائيلي”، بل هي بين “بايدن” و”نتنياهو” وعلى مستوى القادة.
ويجدر بالذكر أن “بيني غانتس”، عضو حكومة الحرب في الكيان الصهيوني، أكد على أنه “رغم الخلافات، لا ينبغي المساس بالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة”، ما معناه أن الجانب الصهيوني لا يسعى أبداً إلى تعميق الخلاف مع الولايات المتحدة، ولا يزال يعتبرها “حليفاً استراتيجياً” لنفسه.
واللافت أنه في نفس المحادثة الصعبة التي استمرت 30 دقيقة مع نتنياهو، طمأن جو بايدن رئيس وزراء الكيان الصهيوني بأن “الولايات المتحدة تدعم إسرائيل ضد التهديدات المحتملة من جميع الأطراف.”
ثانياً؛ تمتلك الولايات المتحدة أدوات فعالة للضغط على الكيان الصهيوني لإنهاء حرب غزة في مدة قصيرة، لكن عدم رغبتها في استخدامها يظهر أن التوتر في العلاقات بين الجانبين يدور بشكل أساسي حول “كيفية إدارة وشكل الحرب” وليس أبعادها الاستراتيجية. فلا يزال “أمن الكيان الإسرائيلي” “خطاً أحمر” بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة لبايدن نفسه، الذي يعتبر نفسه ملتزماً تجاه الكيان الصهيوني، وهو أحد الرؤساء القلائل الذين يعتبرون أنفسهم جزءاً من “قصة إسرائيل”.
رغم ذلك، عشية الانتخابات الرئاسية، لا يريد بايدن أن يتهمه الرأي العام الأمريكي أكثر من هذا بدعم قتل المدنيين في غزة.
قبل نحو 7 أشهر من الانتخابات الرئاسية الأمريكية وفي ظل تراجع شعبية بايدن في استطلاعات الرأي، فهو في حاجة ماسة إلى إنهاء الحرب لتعزيز ائتلافه السياسي الضعيف. في الوقت نفسه، يعتقد العديد من السياسيين الأميركيين، خاصة من الحزب الجمهوري، أن نتنياهو يطيل أمد الحرب لمنع إعادة انتخاب بايدن.
لكن حتى في مواجهة الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ الكيان الصهيوني، فإن نهج بايدن ليس التصدي لنتنياهو أو التوقف عن دعمه في خضم الحرب، بل يقوم على “تكييف” نتنياهو مع المتطلبات المحلية والدولية للولايات المتحدة. لا يرغب بايدن أبداً في قطع المساعدات الأمريكية عن الكيان الصهيوني بل في ظل الضغوط الداخلية، يبحث فقط عن آليات لإدارة التوترات وحل المشاكل، خاصة فيما يتعلق بأمن الكيان الصهيوني.
ثالثاً؛ تعد العلاقة الشخصية بين بايدن ونتنياهو، وكذلك الحاجة إلى تعزيز صورة بايدن ـ التي ارتبطت بحرب غزة ـ عشية الانتخابات الأمريكية، من الأسباب الرئيسية لتوتر العلاقة بين تل أبيب والبيت الأبيض.
في هذا الإطار، ينبغي البحث عن أسباب الخلاف بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في الحالة القائمة بين نتنياهو وبايدن. فمنذ الأيام الأولى لفوز نتنياهو، عارض بايدن سياسات نتنياهو واعتبرها عاملاً لإضعاف العلاقات بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي.
لذلك فإن التصعيد بين الزعيمين السياسيين أمر مفهوم، خاصة من قبل بايدن. لا يحب بايدن، الذي يعتبر نفسه صهيونياً، أن تؤدي سياسات نتنياهو إلى الإخلال بعلاقات بلاده الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني. كما أن للأجواء الانتخابية دور فعال في ضغط حكومة بايدن على نتنياهو. مع ذلك، فإن البيت الأبيض لا يزال يصر على أنه لم يحدث أي تغيير في سياسته فيما يتعلق بدعم حليفه في مواجهة المقاومة الفلسطينية وغزة، وهو سيواصل دعم الكيان الصهيوني لتدمير حماس والجهاد الإسلامي.
النقطة الأخيرة
مثلما أن خلافات أيزنهاور مع بن غوريون وضغوطه عليه عام 1957 للانسحاب من صحراء سيناء، وضغوط جون كينيدي على بن غوريون عام 1962 بسبب اشتباه واشنطن في قيام الكيان الصهيوني بصنع سلاح نووي في “مفاعل ديمونة”، وضغوط نيكسون عام 1973 على غولدا مائير لقبولها وقف إطلاق النار مع العرب وعشرات حالات الخلاف اللاحقة بين الطرفين، لم تضعف العلاقات الاستراتيجية بين تل أبيب وواشنطن، فإن خلافات بايدن مع نتنياهو وضغوطه عليه لن تضر بالعلاقات الاستراتيجية بين الطرفين.
0 تعليق