المجلس الإستراتيجي أونلاين - مذكرة: السياسة التي تتبعها روسيا في أفغانستان حالياً، تقوم على السعي لملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي من ذلك البلد من خلال تعزيز وجودها ونفوذها بالاعتماد على الآليات السياسية والمسارات الأمنية؛ خلافاً للصين التي تسعى إلى ملء ذلك الفراغ بالاستفادة من الآليات الاقتصادية وبرامج التنمية والاستثمار في البنى التحتية في أفغانستان.
حميد خوش آيند - محلل الشؤون الدولية
مرت السياسة الخارجية الروسية في أفغانستان بحقبتين منفصلتين: 1- حقبة الاتحاد السوفيتي خاصة في سنواته العشر الأخيرة أي الفترة ما بين 1979 إلى 1989 حيث غزا الجيش الأحمر السوفيتي أفغانستان لدعم الحكومة الديمقراطية الشعبية ومواجهة المجاهدين الأفغان. في تلك الحقبة، كانت السياسة الخارجية السوفيتية تجاه أفغانستان تقوم على مقاربتين نظريتين هما “الأيديولوجيا” (بمعنى تحقيق القوة العظمى الحديثة أو قوة روسيا العظمى) و”الواقعية الهجومية” (بمعنى السلوكيات التعديلية الهجومية). 2- حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي خاصة بعد الإطاحة بحكم طالبان في عام 2001 حيث تغيرت التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية الروسية تجاه أفغانستان تماماً. يمكن تقييم طبيعة السياسة الخارجية الروسية وتوجهاتها في هذه الحقبة على أساس مقاربتين نظريتين هما “الأيديولوجيا” و”الواقعية الدفاعية” (بمعنى الردع وخلق توازن بين القوى المهددة)”.
مكانة أفغانستان في السياسة الخارجية الروسية
كانت أفغانستان تحظى دوماً بموقع لافت في السياسة الخارجية ونظريات الأمن القومي الروسي. ورغم أن أفغانستان ليست جارة لروسيا ولا توجد حدود مشتركة بينهما لكنها تتمتع بأهمية كبيرة من منظور الروس لكونها منبعاً لتصدير الإرهاب والتطرف والمخدرات من جهة، وجارة للخارج القريب لروسيا (آسيا الوسطى) من جهة أخرى، ما دفع مسؤولي الكرملين إلى العمل بشكل واسع على تقليص وإضعاف موجات التهديد من جانب أفغانستان.
بعبارة أخرى، تعتبر نظرة روسيا إلى أفغانستان امتداداً لنظرتها إلى آسيا الوسطى التي تعتبرها باحتها الخلفية منذ عقود ولديها حساسية تجاه أي عمل تخريبي أو تسرب انعدام الأمن واللااستقرار الى هذه المنطقة التي كانت جزءاً من جغرافية روسيا في وقت ما. ونظراً للأهمية البالغة لهذا الموضوع، سعت روسيا إلى إنشاء وتعزيز تحالفات إقليمية كمنظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شانغهاي للتعاون وغيرهما من الترتيبات الأمنية والسياسية والاقتصادية متعددة الأطراف وكذلك توثيق علاقاتها الأمنية الثنائية للحيلولة دون وصول التهديدات من أفغانستان إلى عمقها الإستراتيجي وتسربها إلى حدودها وكذلك تقييد نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا الوسطى. و يمكن تقييم مواكبة روسيا مع الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001 الذي كان يهدف في الظاهر إلى القضاء على تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية، في هذا الإطار.
روسيا والتطورات الراهنة في أفغانستان
يمكن تقييم السياسة الخارجية الروسية تجاه أفغانستان منذ العقود الماضية حتى اليوم، حيث تسيطر طالبان على أجزاء كبيرة من أراضي البلاد، من منظور “جيوسياسي”. يرى الكرملين في “انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان” الذي أدى إلى 1- “إضعاف الحكومة المركزية في كابول” و 2- “صعود طالبان” في أنحاء البلاد كـ “فرصة ثمينة”. فالسياسة التي تتبعها روسيا في أفغانستان حالياً، تقوم على السعي لملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الأمريكي من ذلك البلد من خلال تعزيز وجودها ونفوذها بالاعتماد على الآليات السياسية والمسارات الأمنية؛ خلافاً للصين التي تسعى إلى ملء الفراغ الآنف الذكر بالاستفادة من الآليات الاقتصادية وبرامج التنمية والاستثمار في البنى التحتية في أفغانستان. إذن تسعى روسيا إلى تعزيز وجودها ونفوذها في أفغانستان مابعد الانسحاب الأمريكي عبر الآليات السياسية والمسارات الأمنية على الأغلب.
ويجدر بالإشارة أنه منذ قبل عدة سنين حيث بدأ الحديث عن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، أدرجت روسيا وبشكل جاد تلك المسارات والآليات في جدول أعمال سياستها الخارجية فعمدت إلى إنشاء اتصالات مع طالبان وتبادل معلومات استخباراتية وسياسية بل وتقديم دعم تسليحي وهي ممارسات اشتدت خلال الأشهر الماضية بالتزامن مع تصاعد وتيرة أحداث أفغانستان. أعلنت روسيا طالبان جماعة أرهابية في عام 2003 بشكل رسمي لكنها ومنذ ذلك الحين على تواصل مع هذه الحركة دون أن يكون مدى دعهما لها معروفاً.
تشعر روسيا بالارتياح من إزالة قواعد أمريكا والناتو العسكرية في أفغانستان، لكنها لا تزال تشعر بالقلق من تداعيات انسحاب الأمريكيين ومن أن يحل الوجود والنفوذ “الأمني الذكي” الأمريكي في أفغانستان محل وجودها العسكري. فمثلاً، خلال الأسابيع الأخير نشرت واشنطن 2000 عنصر أمني واستخباراتي في سفارتها بكابول. ومن أجل التغلب على المخاوف، يسعى الكرملين إلى دعم توجهات تؤدي إلى وصول “حكومة مماثلة التوجه” لروسيا للسلطة؛ حكومة قادرة على احتواء الإرهاب والتطرف خاصة في شمال أفغانستان المتاخمة للحدود الجنوبية لحلفاء روسيا، وضمان مصالح روسيا الاقتصادية خاصة في مجال الطاقة. ولا شك في أن تلك الحكومة لن تكون حكومة أشرف غني التي تتحرك في إطار المصالح الأمريكية. من وجهة نظر موسكو تعتبر طالبان إحدى الأدوات السياسية والأمنية الفعالة لتحقيق الأهداف المذكورة آنفاً.
تشير موسكو إلى طالبان على أنها “قوة سياسية متمكنة مؤهلة للسلطة فعلاً” جنحت نحو الاعتدال والوسطية وتقلصت تهديداتها لروسيا بمضي الوقت؛ ولذلك هي مستعدة الآن لـ “دخول رسمي وجدي” في الحكومة والسياسة في أفغانستان. ومن هذا المنطلق، كان المسؤولون الكبار في روسيا يتحدثون بحزم أكثر عن ضرورة التخلي عن حكومة أشرف غني في مستقبل أفغانستان بدون الناتو. هذا هو ما أكد عليه الموفد الروسي الخاص إلى أفغانستان، ضمير كابلوف، حيث شدد خلال الأسابيع الماضية على أن السبيل لخروج أفغانستان من الانسداد الحالي هو حكومة انتقالية ائتلافية تشمل طالبان “أطياف واسعة من ممثلي البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة” و”هذه الحكومة الائتلافية الجديدة المكونة من مختلف الأحزاب السياسية هي المخرج الوحيد من الأزمة الحالية في أفغانستان”.
أما القلق الروسي الوحيد في ما يخص طالبان هو ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف. وهو أن يمهد تقدم طالبان في شمال أفغانستان الأرضية لقيام جماعات متطرفة كالقاعدة بإيجاد تنظيمات سرية هناك وتنفيذ عمليات ضد طاجيكستان وأوزبكستان. وهذا ما يقض مضاجع المسؤولين الروس.
و ختاماً
تعتقد موسكو أن ما يجري في أفغانستان يؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على أمن الاتحاد الروسي. من المنظور الروسي، فإن تهديدات مثل الأفكار والتصرفات المتطرفة والراديكالية، والرؤى المناهضة للروس بين الشعب والنخب في أفغانستان العائدة إلى الذكريات السلبية جداً لحقبة الاحتلال السوفيتي، والتيارات السياسية المعارضة لروسيا، والفشل في عملية بناء الدولة – الشعب، وإنتاج المخدرات، تهدد مصالح روسيا داخل أفغانستان وأمنها بشكل جاد. كما أن لدى الكرملين حساسية بالغة تجاه التهديدات التي تحدق بالعمق الإستراتيجي الروسي أي آسيا الوسطى نتيجة تفشي زعزعة الأمن والاستقرار في أفغانستان.
بغية احتواء تلك التهديدات، تقوم سياسة روسيا في أفغانستان على الإستراتيجيات التالية: 1- تعزيز النفوذ والحضور السياسي والاقتصادي والأمني في أفغانستان عبر مختلف الطرق كإبعاد الأفغان عن أمريكا (هناك اليوم استياء كبير لدى الأفغان من أداء واشنطن غير المقبول في مجال إعادة الإعمار في أفغانستان والذي سبب تزايداً ملحوظاً للفساد بين المسؤولين الأفغان). 2- مواجهة التحركات المخلة بالأمن بهدف احتواء الإرهاب في أفغانستان والحيلولة دون وصول التطرف إلى دول آسيا الوسطى. 3- زيادة الأنشطة الاقتصادية ومن ضمنها في مجال الطاقة. 4- تعزيز المؤشرات الأمنية على حدود الاتحاد الروسي ومنطقة الخارج القريب.
0 تعليق