المجلس الإستراتيجي أونلاين ـ رأي: يواجه الاتحاد الأوروبي ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الطاقة من شأنه أن يخل بالتعافي الاقتصادي للاتحاد الأوروبي بعد تفشي وباء كورونا وأن يقلص مداخيل الأسر بل وأن يشكّل تحدياً أمام ما يسمى بالتحول الأخضر. أدت مجموعة أسباب تتعلق بالسوق والجغرافيا والسياسية إلى هذا الوضع.
علي رضا ثمودي ـ خبير الشؤون الأوروبية
يظهر مؤشر (TTF) الهولندي أن أسعار الغاز ارتفعت من 16 يورو لكل ميغاواط في الساعة في بداية يناير إلى 88 يورو في نهاية أكتوبر، أي أنها ارتفعت بنسبة 450 في المئة في غضون أقل من عام. رغم مساعي الاتحاد الأوروبي لإنهاء اعتماده على الوقود الأحفوري تدريجياً وتحول الطاقة المتجددة إلى أهم مصدر لإنتاج الكهرباء في عام 2020، إلا أن هذا التغيير لم يكن سريعاً وفعالاً بما يكفي.
الأسباب المؤثرة على ارتفاع الأسعار ودور روسيا
أحد أسباب الوضع الحالي هو زيادة الطلب على الطاقة بعد انتهاء جائحة كورونا. رغم تراجع الطلب على الغاز الطبيعي بنسبة 1.9 في المئة في عام 2020، يظهر تقدير الوكالة الدولية للطاقة أن الطلب على الغاز سيزداد 9 في المئة سنوياً خلال الفترة بين 2020 إلى 2024. إلى جانب ذلك، شهد إنتاج الغاز في أوروبا ومن ضمنها هولندا انخفاضاً، ما سيجعل الأوروبيين أشد اعتماداً على استيراد الغاز خاصة من روسيا والنرويج. من جهة أخرى، تراجع عرض الغاز في الأسواق العالمية. عدا ذلك، وإلى جانب التخلي عن استخدام الفحم الحجري، انحسر إنتاج طاقة الرياح نتيجة الظروف المناخية. كما أن الانخفاض غير المسبوق لدرجات الحرارة، زاد من الطلب على الطاقة لتدفئة البيوت. كذلك، و جراء التطعيم العام في ربيع العام الحالي، عادت أنشطة القطاعات المختلفة بشكل متسارع واستأنفت الدوائر الحكومية والمطاعم وغيرها عملها. أدت مجموعة هذه الأسباب إلى ارتفاع أسعار الطاقة في الاتحاد الأوروبي.
من جهة أخرى، إن التراجع الكبير في عرض الغاز الطبيعي لروسيا، أهم مصدّري الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، أثار مخاوف بشأن سعي موسكو إلى توظيف الأزمة الحالية وممارسة الضغط على الاتحاد الأوروبي لتفعيل مشروع السيل الشمالي 2. فعلى سبيل المثال، إذ انتقد فلاديمير بوتين الاتحاد الأوروبي لرفضه توقيع عقود طويلة الأمد، أعلن أنه في حال دعم الاتحاد الأوروبي مشروع السيل الشمالي 2 سيكون بإمكان روسيا زيادة تصدير الغاز إلى أوروبا بنسبة 10 في المئة. تسعى موسكو إلى توظيف الوضع الراهن بشكل ما للضغط على أوكرانيا كذلك. في بداية أكتوبر، ظهر أول مؤشرات الخطة الروسية المحتملة لعرقلة ترانزيت الغاز عبر أوكرانيا حيث أعلنت غازبروم أن الغاز الذي كان يُنقل بشكل تاريخي عبر أوكرانيا سيُحَوَّل إلى الخط الجنوبي إذ تنوي الشركة ربط السيل التركي إلى بلغاريا وصربيا عبر البحر الأسود.
امتنعت غازبروم منذ وقت بعيد عن عرض الغاز إلى السوق النقدي الذي تجري التجارة فيها على أساس حاجات قصيرة المدى وليس وفق عقود طويلة المدى. هذه الخطوة من قبل غازبروم تعني أن روسيا تسعى إلى الضغط على أوروبا لتنفيذ مشروع السيل الشمالي 2. يمكن القول إن المواقف الروسية الأخيرة أثارت مخاوف لدى الدول الأوروبية. يرى القادة الأوروبيون أن روسيا توظف ورقة الغاز كسلاح ضد الاتحاد الأوروبي وتستخدم أداة الطاقة للضغط على بروكسل وبرلين للحصول على الموافقات الفنية والقانونية المطلوبة لمشروع السيل الشمالي 2.
إيران وأمن الطاقة في أوروبا
قبل سنوات، كان الأوروبيون يظنون أنه يمكنهم الاعتماد سريعاً على موارد الغاز في إيران وآسيا الوسطى، لكن مجموعة من الأسباب كالتكاليف الباهظة لتطوير البنى التحتية واستمرار العقوبات الأمريكية ضد إيران وزيادة الطلب الصيني على الطاقة، حالت دون تحقيق الاتحاد الأوروبي هذا الهدف. أخيراً، توقف مشروع خط أنابيب نوبوكو الطموح نهائياً. في الحقيقة، ساعد الخط الجنوبي على تعزيز موقف روسيا وليس إضعافه. في عام 2016، كان الاتحاد الأوروبي يتصور أنه في ظل الاتفاق النووي مع إيران وإجراء عمليات تنقيب جديدة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، سيكون قادراً على إنهاء هيمنة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي. كما وردت الإشارة، كانت هناك توقعات بأن يؤدي إلغاء عقوبات الأمم المتحدة وتخفيف المضايقات الأمريكية إلى استثمارات كبيرة في الغاز الطبيعي الإيراني. في نفس الوقت، كان يُتوقَّع أن يتولى اتحاد من دول شرق المتوسط تطوير الحقول المكتشفة وإيجاد البنى التحتية المطلوبة لنقل هذه الموارد إلى المستهلكين الأوروبين. في الحقيقة، كانت فكرة أن دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا وغرب آسيا قادرة على منافسة المنتجين الروس، دافعاً مهماً للشركات الروسية نفسها للمشاركة في بعض هذه المشاريع. مع ذلك، كان انسحاب إدراة ترامب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات بمعنى أن حلم إيصال الغاز الإيراني إلى أوروبا لن يتحقق. كما أن الدول المتوسطية لم تنجح في التوصل إلى اتفاق بشأن مزاعمها في شرق المتوسط. إذن، إنه في حال إلغاء العقوبات وتراجع حدة التوتر بين إيران والغرب، سيكون بإمكان طهران أن تلعب دوراً مهماً في تزويد أوروبا بالغاز على المدى الطويل.
مسك الختام
يمكن القول إن فشل سياسات أوروبا في مجال الطاقة لا يتربط كثيراً بالوقود الأحفوري والمصادر المتجددة. تحقيق أمن الطاقة بحاجة إلى خلق توازن بين قوى السوق والتقنية والسياسة والجيوسياسية. الحقيقة هي أن كلاً من أيديولوجيتَي السوق التي يتبناها اليمين وقمع السوق التي يتبناها اليسار في أوروبا أدى إلى ظهور الأزمة الحالية. أثار ارتفاع أسعار الطاقة مخاوف بروكسل؛ لأنه قد يتسبب في انتقادات شديدة للاتحاد الأوروبي وسياساته الخضراء واندلاع احتجاجات واسعة.
0 تعليق