المجلس الإستراتيجي أونلاين ـ رأي: منذ فترة، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يفكر في تحسين مكانة أوروبا ودورها في الناتو وتقليل النفوذ الأمريكي. لكن المعادلات السياسية والأمنية في أوروبا تسير بخلاف ما يرغب فيه الرئيس الفرنسي.
مرتضى مكي ـ خبير في الشؤون الأوروبية
إن إلقاء نظرة على تطورات الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والهجوم الروسي على أوكرانيا يظهر بوضوح واقع الوضع الأمني الحالي في أوروبا.
ينبغي تقسيم الوضع السياسي والاقتصادي والأمني للاتحاد الأوروبي إلى ما قبل الحرب الأوكرانية وما بعدها. بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت الحكومات الأوروبية تشكيل اتحاد على المستوى العالمي عبر التقارب الاقتصادي ثم السياسي والأمني حتى تتمكن من لعب دور نشط في المعادلات السياسية والأمنية والاقتصادية للعالم. خلال فترة النظام ثنائي القطب، وبسبب المظلة الأمنية الأمريكية، لعب الناتو دوراً بقيادة الولايات المتحدة في المعادلات السياسية والاقتصادية والأمنية، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبحت فرنسا كعضو يتبنى موقفاً احتجاجياً في الناتو، تحاول تغيير الترتيبات الأمنية لحلف الناتو. في الوقت نفسه، قام المارشال ديغول بسحب بلاده من الجناح العسكري للناتو. كان الفرنسيون يعتقدون أن بإمكانهم تشكيل ترتيبات أمنية أوروبية مستقلة خارج الناتو. بالنظر إلى أن فلسفة الناتو الوجودية قد اختفت أيضاً بعد انهيار حلف وارسو، اعتقد الفرنسيون أنه يمكنهم استغلال فراغ الفلسفة الوجودية للناتو لتحسين موقع أوروبا في المعادلات العالمية. لكن الأزمات الدموية في منطقة البلقان في النصف الأول من التسعينيات وأزمة كوسوفو في أواخر التسعينيات أظهرت أن الأوروبيين غير قادرين على إدارة أزمات الدول المجاورة لهم، كما استفادت الولايات المتحدة من أزمات البلقان في التسعينيات إلى أقصى حد للإبقاء على ضرورة وجود المظلة الأمنية للناتو في أوروبا.
إلا أن هذه النظرية والرغبة والتوقع ظلت قائمة لدى فرنسا بأن تشكل هيكلاً أمنياً أوروبياً مستقلاً وبقيت الفجوة السياسية والأمنية موجودة بين الحلفاء على جانبي المحيط الأطلسي.
لقد كشفت طريقة المواجهة مع روسيا كخليفة للاتحاد السوفيتي إلى حد كبير الفجوة بين أوروبا والولايات المتحدة. منذ بداية انهيار الاتحاد السوفيتي، سعى الأمريكيون إلى احتواء روسيا داخل حدودها، وحتى قبول روسيا في برنامج مشاركة الناتو في التسعينيات كان محاولة لخداع روسيا التي أرادت أن تصبح شريكاً أوروبياً في البيت الأوروبي المشترك في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
لكن سياسة بوريس يلتسين التغريبية وضعف حكومته أمام الغرب أدت إلى صعود فلاديمير بوتين إلى السلطة وتبني السياسات القومية الروسية. كما حاولت روسيا بقيادة بوتين تقوية وتوطيد علاقات البلاد مع الجمهوريات السوفيتية السابقة من خلال تشكيل منظمات ومؤسسات إقليمية. في مثل هذه الحالة، واصل الأمريكيون سياسة توسيع الناتو شرقاً في إطار حصر روسيا داخل حدودها، بل وسعوا إلى انضمام الجمهوريات السوفيتية السابقة إلى حلف الناتو.
كانت جورجيا وأوكرانيا تريدان الانضمام إلى الناتو. فكانت الجذور الرئيسية لأزمة جورجيا في عام 2008 هي محاولة البلاد للانضمام إلى الناتو.
كان للولايات المتحدة وأوروبا رؤية مختلفة حول كيفية إدارة الأزمة في جورجيا. إن الزيارات المكوكية التي قام بها الرئيس الفرنسي حينها نيكولا ساركوزي إلى تبليسي وموسكو والسياسة الإستراتيجية لساركوزي وأنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، المتمثلة في تأجيل قبول جورجيا وأوكرانيا في حلف الناتو، أظهرت أن الأوروبيين يريدون احترام اعتبارات روسيا في مجال نفوذها داخل أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، ولا يسعون أبداً إلى توتر مع جارتهم الكبيرة.
خلال أزمة القرم وضم روسيا لهذه المنطقة إلى أراضيها في عام 2014، على الرغم من فرض العديد من العقوبات على روسيا، إلا أن هذه العقوبات لم تكن بالقدر الذي سيكون له تأثير خطير على العلاقات الاقتصادية والسياسية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا وفرنسا. خلال هذه الفترة، وقع أيضاً الأوروبيون عدة اتفاقيات لتوسيع التعاون الدفاعي والعسكري المشترك؛ التوافقات التي كان يمكن أن تكون البنية التحتية لتحقيق ترتيبات أمنية أوروبية مستقلة.
لكن الحملة الروسية على أوكرانيا في فبراير/ شباط العام الماضي غيّر بشكل جذري المعادلات السياسية والأمنية والاقتصادية والطاقية بين الغرب وروسيا.
قبل الهجوم الروسي، كان يعتقد الأوروبيون، خاصة ميركل المستشارة السابقة لألمانيا، أنه عليهم السعي إلى تغيير سلوك وسياسات روسيا من خلال توسيع التعاون السياسي والاقتصادي وحتى الأمني معها. لكن بعد هجوم روسيا على أوكرانيا، لم يكن أمام الأوروبيين خيار سوى اتباع ومسايرة الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا في المعركة مع الجيش الروسي؛ فاختفت الفجوة بين أوروبا والولايات المتحدة في كيفية التعامل مع روسيا.
اليوم، رغم أن الأمين العام لحلف الناتو هو شخصية سياسية أوروبية، لكنه مسؤول فقط عن إدارة الأمانة العامة والتنظيم الإداري لهذا الحلف، أما القيادة العسكرية للناتو فهي في أيدي الولايات المتحدة عملياً. كما أن الإدارة الأمريكية هي من تحدد حجم وطريقة تقديم المساعدات العسكرية للحكومة الأوكرانية نوعاً وكماً.
حتى أننا رأينا أن الحكومة الألمانية، التي كان من المقرر أن تزيد ميزانيتها العسكرية إلى 2٪ في فترة 10 سنوات، زادت ميزانيتها العسكرية بمقدار 100 مليار يورو في أعقاب هجوم روسيا على أوكرانيا.
الخطوة التي تتعارض مع سياسات الحكومات الغربية تجاه ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث حاولت منع ألمانيا من امتلاك جيش قوي. اليوم، قام جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي تقريباً بزيادة ميزانيتهم العسكرية، لكن هذه الزيادة في الميزانية لا تؤدي إلى تقارب في السياسة الخارجية والأمنية المشتركة. لأن الوضع بعد هجوم روسيا على أوكرانيا فرض سياسة الدفاع هذه على الحكومات الأوروبية. وذلك في حين واجهت هذه البلدان، بعد هجوم روسيا على أوكرانيا، زيادة في أسعار الطاقة وزيادة في عجز الميزانية وارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات غير مسبوقة في العقود الأربعة الماضية. إذن خطاب إيمانويل ماكرون في ظل هذه الظروف حول السعي إلى إنشاء هيكل دفاعي وأمني مشترك دون دعم أمريكي لا يتماشى مع التغيرات في المعادلات السياسية والأمنية في أوروبا بعد هجوم روسيا على أوكرانيا، وستجد أوروبا نفسها بحاجة إلى البقاء تحت مظلة الناتو ونفوذ الولايات المتحدة لسنوات عديدة.
0 تعليق