أكد الدكتور سيدكمال خرازي: “الذكاء الاصطناعي (AI) ليس فقط لأتمتة المهام التنفيذية أو الصناعات، بل يعزز الإدراك البشري ويتطلب تعريفاً جديداً للحوكمة. وبالتالي، في العقود القادمة، سنشهد دمج الذكاء البشري مع قدرات الذكاء الاصطناعي، وستظهر أنماط جديدة للحوكمة والإدارة العامة.”

الحوكمة في عصر الذكاء الاصطناعي

وتطرق الدكتور خرازي إلى دور الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالأزمات وإدارة الموارد بشكل أفضل، وقال: “الحوكمة التنبؤية تُحوّل الحكومات من كيانات رد فعل إلى كيانات ديناميكية واستباقية، ويمكنها التعرف على الأزمات وإدارتها قبل وقوعها.”

وأشار أيضاً إلى التحديات المتعلقة بالفجوة الرقمية وعدم المساواة، وأضاف: “الذكاء الاصطناعي هو فرصة حصرية لسد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية. يمكن لهذه التقنية أن تضمن الوصول العادل إلى الخدمات الصحية والتعليمية والمالية.”

التحول في البنية التحتية والتعليم

في جزء من كلمته، أشار الدكتور خرازي إلى أهمية الذكاء الاصطناعي في التخطيط الذكي للبنية التحتية وتحسين جودة التعليم، وأكد: “يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقلل الفجوات بين الأنظمة التعليمية الحضرية والريفية، ومن خلال التعلم الفردي، يوفر فرصاً متساوية للجميع.”

ضرورة إعداد الأطر الأخلاقية والدولية

وفي جزء آخر من كلمته أكد الدكتور خرازي على الحاجة إلى أطر أخلاقية لمنع إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي، وقال: “يجب على الأمم المتحدة إنشاء مجالس متخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي لضمان مراقبة الإمتثال للمعايير الأخلاقية في القرارات الدولية.”

تعقد القمة العالمية للحكومات 2025 تحت شعار “استشراف حكومات المستقبل” في الفترة من 11 لغاية 13 فبراير/شباط الجاري في مدينة دبي، بمشاركة القادة وصناع السياسات والخبراء من جميع أنحاء العالم، وتُعتبر واحدة من أبرز المنصات الدولية في مجال الحوكمة، بهدف تبادل الأفكار والحلول لبناء حكومات المستقبل.

فيما يلي النص الكامل لكلمة الدكتور خرازي، رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية:

مستقبل الحوكمة في عصر تعزيز الإدراك البشري بالذكاء الاصطناعي

11 فبراير/شباط 2025

السيد الرئيس، السيدات والسادة

نحن على أعتاب تحول مهم. الذكاء الاصطناعي ليس فقط لأتمتة المهام التنفيذية أو الصناعات، بل يعزز الإدراك البشري ويتطلب تعريفاً جديداً للحوكمة. وبالتالي، في العقود القادمة، سنشهد دمج الذكاء البشري مع قدرات الذكاء الاصطناعي، وستظهر نماذج جديدة للحوكمة والإدارة العامة.

التقدم في التكنولوجيا العصبية، وتعلم الآلة، والعلوم الاستعرافية سيكون محركاً لهذا التحول. واجهات الدماغ والحاسوب (BCI) ستُمكّن من الاتصال المباشر بين الخلايا العصبية للدماغ وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وستعزز تقوية الخلايا العصبية الأداء المعرفي للبشر بحيث يمكنهم معالجة كميات كبيرة من المعلومات في آن واحد. سيلعب المساعدون المعرفيون المبنيون على الذكاء الاصطناعي دوراً مهماً في اتخاذ القرارات، والبصيرة اللحظية، وتعزيز الحدس البشري.

مع تكامل خوارزميات الذكاء الاصطناعي والممرات العصبية، سنشهد ظهور الذكاء المركب حيث يعمل الإبداع البشري وقدرات التحليل للذكاء الاصطناعي معاً. مع ذلك، يتطلب هذا التقارب أطراً أخلاقية صارمة لضمان أن تعزيز الإدراك سيكون أداة لتمكين الإنسان وليس أداة للتحكم فيه. بالإضافة إلى ذلك، يجب ضمان أن الذكاء الاصطناعي يعزز اتخاذ القرارات العادلة والواعية بدلاً من التحيزات المعرفية.

دور العلوم المعرفية في هذا التحول بالغ الأهمية، لأنها تساعدنا على فهم كيف تتكيف قدرة الإنسان على الاستدلال، واتخاذ القرارات، والسلوك الاجتماعي مع تعزيز الذكاء الاصطناعي. من خلال دمج الرؤى المستندة إلى علم الأعصاب وعلم النفس، يمكننا تصميم نماذج للحوكمة تعزز التعاون بين الإنسان والذكاء الاصطناعي، وتقلل العبء المعرفي والتحيزات المعرفية.

الحضور الكرام

قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات ضخمة من البيانات ستتيح للحكومات إمكانية التنبؤ بالأزمات قبل حدوثها. الحوكمة التنبؤية، بدلاً من الإجراءات التي تأتي في إطار رد الفعل، ستشمل التدخلات السياسية الاستباقية، سواء في التغيرات المناخية أو في الركود الاقتصادي. ستتحول الحكومات من كيانات رد فعل إلى كيانات ديناميكية واستباقية تضبط نفسها باستمرار بناءً على التنبؤات.

ستساعد العلوم الاستعرافية في تحسين الحوكمة التنبؤية من خلال تعزيز فهمنا لصنع القرار في ظل عدم اليقين. مع تقدم الذكاء الاصطناعي، من المتوقع أن تصبح الحكومات أصغر وأكثر مرونة، حيث تركز على الإشراف الاستراتيجي بدلاً من التحكم الإداري. سيُبسّط الذكاء الاصطناعي العمليات البيروقراطية، ويُحسّن تقديم الخدمات العامة، ويقلل من الأعمال الزائدة.

إحدى أهم التحديات الرئيسية التي تواجه الحكومات اليوم هي عدم المساواة في الوصول إلى الفرص والموارد والخدمات في مختلف قطاعات المجتمع. عدم المساواة الاقتصادية والوصول غير المتكافئ إلى التعليم نتيجة للـفجوة الرقمية يشكل تهديداً للتماسك الاجتماعي والتنمية المستدامة. يوفر الذكاء الاصطناعي فرصة حصرية لسد هذه الفجوة من خلال برامج تعزز العدالة الاجتماعية والمساواة على المستوى الوطني.

يمكن للتحليلات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أن تساعد الحكومات في تحديد المناطق والمجتمعات المحرومة والقيام بالتدخلات المتناسبة مع احتياجات تلك المناطق. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين توزيع برامج الرفاه الاجتماعي وضمان وصول المساعدات المالية والاعانات والموارد إلى الشرائح الأكثر ضعفاً في المجتمع بطريقة فعالة.

السيدات والسادة

في التنمية الاقتصادية، يمكن للذكاء الاصطناعي دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة (SMEs) من خلال توفير المعلومات والرؤى حول الأسواق، وأتمتة العمليات التجارية، وتطوير الوصول إلى الخدمات المالية. يمكن للتكنولوجيا المالية المبنية على الذكاء الاصطناعي، مثل الإقراض الرقمي وتمويل المشاريع الصغيرة المعتمدة على البلوك تشين، تمكين رواد الأعمال في المناطق ذات الفرص المحدودة، وتعزيز الحركة الاقتصادية، وتقليل التفاوت في الدخل.

يمكن تقليص الفوارق بين المناطق الحضرية والريفية من خلال التخطيط الذكي للبنية التحتية المعتمد على الذكاء الاصطناعي. يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الحكومات في تحسين شبكات النقل، والتنبؤ بزيادة الطلب على الإسكان والخدمات العامة. باستخدام الذكاء الاصطناعي في التخطيط الحضري، يمكن للحكومات التأكد من أن الاستثمارات في البنية التحتية تُوزّع بشكل عادل وتعزز التنمية المتوازنة على المستوى الإقليمي.

في مجال التعليم، يمكن للمنصات التعليمية الفردية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تقلل الفجوات بين الأنظمة التعليمية في المناطق الحضرية والريفية. يمكن للأنظمة التعليمية الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تدعم الطلاب الذين يفتقرون إلى الوصول إلى معلمين بارعين من خلال التوجيه اللحظي والمنصات التعليمية التكيفية.

في التعليم العالي، يغير الذكاء الاصطناعي التعليم العالي من خلال التعلم الفردي وتحسين الكفاءة الإدارية. يمكن لأنظمة إدارة التعلم المبنية على الذكاء الاصطناعي إنشاء محتوى دراسي يتناسب مع احتياجات كل طالب، وتتكيف مع سرعة وأسلوب تعلمهم. توفر المعلمون الافتراضيون وأدوات التقييم المعتمدة على الذكاء الاصطناعي ملاحظات فورية وتضمن أن يفهم الطلاب المفاهيم المعقدة بشكل أكثر فعالية.

الذكاء الاصطناعي يعزز أيضاً وصول الطلاب ذوي الإعاقة إلى التعليم العالي من خلال تقديم أدوات الترجمة، وخدمات النسخ التلقائي، ومنصات التعلم التكيفي. من خلال إزالة الحواجز التعليمية، يضمن الذكاء الاصطناعي أن المعرفة وفرص التعلم متاحة لجمهور أوسع.

في مجال البحث العلمي، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الأدبيات العلمية بشكل أوسع، وتحديد الأفكار الناشئة، واقتراح مسارات بحثية مبتكرة. تساعد المحاكاة وأدوات النمذجة المدعومة بالذكاء الاصطناعي الباحثين في اختبار فرضياتهم، وإجراء تجارب في بيئات افتراضية، وتسريع التقدم العلمي في المجالات متعددة التخصصات.

تُسهّل الأنظمة الجامعية القائمة على الذكاء الاصطناعي شؤون الجامعة من خلال الجدولة التلقائية للدروس، وخدمات الطلاب، واتخاذ القرارات داخل الجامعة. هذا النهج يزيد من الكفاءة، ويقلل التكاليف، ويمنح المعلمين فرصة أكبر للتركيز على تعليم وتوجيه الطلاب.

الأصدقاء الأعزاء

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دوراً كبيراً في تحسين الوصول إلى الرعاية الصحية. المنصات الطبية عن بُعد المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكن أن تملأ الفجوات في الرعاية الصحية بين المناطق الحضرية والريفية، وتتيح الاستشارات عن بُعد، والكشف المبكر عن الأمراض، والتخطيط للرعاية الصحية التنبؤية. يمكن للحكومات استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين تخصيص الموارد الطبية وضمان أن المجتمعات المحرومة تتلقى الرعاية الصحية الكافية.

مع زيادة شيخوخة السكان، يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين رفاهية ورعاية كبار السن. يمكن للأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي مراقبة صحة كبار السن بشكل لحظي و تزويد مقدمي الرعاية والمختصين الطبيين بمعلومات حول المشاكل الطبية المحتملة قبل أن تصبح حرجة. يمكن للأجهزة القابلة للارتداء المدعومة بالذكاء الاصطناعي تتبع المؤشرات الحيوية، والتعرف على السقوط، والتنبؤ بتدهور الحالة الصحية، وتسهيل التدخلات المبكرة التي تحسن جودة الحياة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأنظمة المنزلية الآلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي مساعدة كبار السن الذين يواجهون تحديات في الحركة في ضبط الإضاءة، ودرجة الحرارة، وغيرها من الظروف داخل منازلهم، مما يخلق بيئة آمنة ومريحة. يمكن للأنظمة التحليلية التنبؤية المدعومة بالذكاء الاصطناعي مساعدة الحكومات ومقدمي الرعاية الصحية في تخصيص الموارد بكفاءة، وضمان توزيع خدمات رعاية المسنين بشكل صحيح وبطريقة متاحة لجميع شرائح المجتمع.

الزملاء الأعزاء

في العقود القادمة، لن تقتصر قوة القيادة السياسية على الفطنة أو القدرة على إقناع الآخرين، بل ستعتمد على قدرتهم في تطبيق الذكاء الاصطناعي بشكل فعال. يجب على صناع القرار أن يوازنوا بين الحكم البشري وتوصيات الذكاء الاصطناعي. هذا يثير أسئلة هامة: هل سيظل الحدس البشري يلعب دوراً في الحوكمة؟ وهل ستكون السياسات المقترحة من قبل الذكاء الاصطناعي أكثر كفاءة من قرارات البشر؟

 على أي حال، يتطلب استخدام الذكاء الاصطناعي في الحوكمة توافق هياكل الدولة مع الذكاء الاصطناعي. النماذج البيروقراطية التقليدية، التي غالباً ما تكون بطيئة وصلبة، يجب أن تتحول إلى عمليات اتخاذ قرارات تعتمد على الذكاء الاصطناعي. يجب على الحكومات إنشاء وحدات حكومية متخصصة في الذكاء الاصطناعي للإشراف على دمج الذكاء الاصطناعي، وضمان الشفافية، ورصد الامتثال للمعايير الأخلاقية.

الحوكمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي تتطلب إعادة هيكلة الإدارة الحكومية من أجل أن تصبح أكثر مرونة، وتعتمد على البيانات، وذات استجابة تنظيمية. يجب على المؤسسات الانتقال من الهياكل الهرمية إلى الهياكل الشبكية للاستفادة من رؤى الذكاء الاصطناعي اللحظي. هذا يتطلب تدريب موظفي القطاع العام للعمل جنباً إلى جنب مع أنظمة الذكاء الاصطناعي وضمان استخدام الرقابة البشرية كجزء أساسي من الحوكمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. في الحوكمة المستقبلية، سيعزز الذكاء الاصطناعي الإدراك البشري ويوفر إمكانية وضع سياسات دقيقة، وفي الوقت المناسب، وشاملة.

مع ذلك، يجب على الحكومات أيضاً التعامل مع قضايا مثل التحيز المحتمل في الذكاء الاصطناعي، والمعلومات المضللة، ومشاكل الحوكمة الرقمية. مع الإدراك المدعوم بالذكاء الاصطناعي، تزداد القدرة على التلاعب بالإدراكات العامة، مما يستلزم تدابير أمنية ضد استغلال تعزيز الوظائف المعرفية في السياسة والحوكمة. سيكون دور العلوم الاستعرافية في تشكيل هذه الحواجز الوقائية حيوياً، حيث ستوفر رؤى حول كيفية حدوث التلاعب الإدراكي وكيف يمكن للأفراد تقييم المحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي بشكل انتقادي.

على المستوى الدولي، يجب على المؤسسات العالمية مثل الأمم المتحدة التكيف مع هذه التحولات. يمكن للدبلوماسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تمكين الدول من تحليل الاتجاهات العالمية بشكل أكثر فعالية، والتنبؤ بالتغيرات الجيوسياسية، والمشاركة الفعالة في حل النزاعات. تحتاج منظمة الأمم المتحدة إلى إنشاء مجالس خاصة بالذكاء الاصطناعي لمراقبة الامتثال للمعايير الأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في القرارات الدولية.

خلاصة القول، إن الذكاء الاصطناعي يمتلك القدرة على تحقيق المساواة وضمان أن النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي يعود بالنفع على جميع المواطنين وليس فقط على قلة من الأفراد الأوفر حظاً. باستخدام الحكومات لنماذج الحوكمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، يمكنها تبني سياسات تكون أكثر شمولية، واستجابة وعدالة. التحدي أمامنا ليس في السؤال عما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيغير حياتنا أم لا، بل في ما إذا كنا سنستخدم قوته من أجل المصلحة العامة أم لا.

نحن كقادة وصناع سياسات، يجب أن نضمن أن الذكاء الاصطناعي يعمل كأداة لتطوير العدالة، وتمكين أفراد المجتمع، وتحقيق الرفاه المشترك. يمكننا استخدام هذه التكنولوجيا لإنشاء مجتمعات عادلة، شاملة، وقادرة على التكيف. مستقبل الحوكمة لا يجب أن يكون رقمياً فقط، بل وعادلاً، ورحيماً، ومنتجاً.

وشكراً