المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي: تأخذ الاحتجاجات الطلابية في الولايات المتحدة أبعاداً جديدة كل يوم. إن الاحتجاجات الحالية، بسبب ما تحظى به الجامعات من ثقة عامة ورأس مال اجتماعي أكبر مقارنة بالمؤسسات المدنية والاجتماعية الأخرى، وبالتالي فعاليتها الأكبر، وضعت الإدارة الأمريكية في "موقف صعب" فعلاً، ينعكس بوضوح في تصريحات المسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين.
حميد خوش آيند ـ خبير في القضايا الدولية
هذه الاحتجاجات، التي انطلقت من جامعة كولومبيا، المركز الرئيسي وقاعدة “اللوبي اليهودي”، وامتدت حتى الآن إلى أكثر من 100 جامعة أمريكية مرموقة، هي تكرار لـ “مأساة فيتنام” وتذكير بالحركة الاحتجاجية الشهيرة في جامعة كولومبيا عام 1968، والتي أجبرت الولايات المتحدة على الانسحاب من حرب فيتنام.
جامعة كولومبيا منطلق الحركة الطلاب في الولايات المتحدة
المعاملة القاسية والضرب والاعتقال بحق الطلاب ومحاولة كبح الحركة الطلابية هي السياسة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية تجاه المحتجين. في هذا الصدد، أعلنت إدارة بايدن، التي لجأت إلى اتهام المحتجين بـ “معاداة السامية”، في بيان مثير للسخرية: “لا مكان لخطاب العنف ومعاداة السامية في أي حرم جامعي أمريكي”. صدر هذا الموقف بينما كان الأساتذة والطلاب اليهود أيضاً حاضرين في الاحتجاجات بل ويلعبون دوراً بارزاً ومهماً في تنظيمها.
أبرز مطالب الطلاب
ومن بين أبرز مطالب المحتجين، هي “مراجعة” الإدارة الأمريكية لسياساتها الداعمة للكيان الصهيوني، ووقف الحرب في غزة، وقطع أو تقليص العلاقات الاقتصادية مع الجهات التي تزود الكيان الصهيوني بالسلاح والمال. ومع استمرار الوتيرة الحالية، من المتوقع أن تشهد عشرات الجامعات الأخرى احتجاجات طلابية في الأسابيع المقبلة، ومن المحتمل أن تنضم المزيد من الجامعات الأوروبية إلى هذه الاحتجاجات.
إن الاحتجاجات الطلابية الأمريكية الأخيرة تحمل رسائل وتداعيات على المستويين الداخلي والخارجي.
الرسائل
إن الانتفاضة الطلابية في الولايات المتحدة وطريقة تعامل الإدارة والشرطة الأمريكيتين مع الطلاب تنطوي على رسائل مثيرة للتأمل أهمها كما يلي:
أولاً؛ رغم التضليل الإعلامي وتزييف حقائق أحداث غزة على نطاق واسع، أظهرت الاحتجاجات الأخيرة أن الإدارة الأمريكية فقدت بالفعل القدرة على إقناع المجتمع المدني، خاصة جيل الطلاب؛ وعلى عكس ما يريده رجال الدولة والأوساط ذات التوجه المماثل له، تملك الجامعة فهماً صحيحاً وتقييماً واقعياً عما يحدث في غزة وتداعياته على الولايات المتحدة.
ثانياً؛ أظهرت الاحتجاجات الطلابية أن “الفجوة” بين نظام الحكم والمجتمع المدني، بما في ذلك الجامعات والرأي العام في الولايات المتحدة، تجاه القضية الفلسطينية وغزة تحديداً، بلغت درجة لا يمكن إخفاؤها بالأدوات الإعلامية. في هذا السياق، يُعتبر استطلاع رأي أجرته “سي إن إن” خير شاهد على هذا الواقع، حيث تشير نتائجه إلى أن 71 بالمائة من الأمريكيين يعارضون سياسات بايدن تجاه حرب غزة.
ثالثاً؛ إن إدانة الكيان الصهيوني بسبب ارتكاب الإبادة الجماعية في غزة والتعبير عن التضامن مع فلسطين والدعوة إلى إنهاء الدعم الأمريكي لتل أبيب هي “أعلى صوت” يُسمع في الجامعات الأمريكية، مما يعني أن “شعبية فلسطين” و”الاشمئزاز من الكيان الإسرائيلي” تنتشر بسرعة في الولايات المتحدة، بصفتها الداعم الأكبر والحليف الاستراتيجي لهذا الكيان.
رابعاً؛ إن معاملة الشرطة القاسية مع الطلاب والأساتذة المحتجين واعتقالهم وانتهاك حق حرية التعبير والتجمع أزاحت القناع عن وجه الديمقراطية الأمريكية بأوضح صورة وأظهرت الطبيعة القمعية للإدارة والشرطة الأمريكيتين.
التداعيات
إن للاحتجاجات الأخيرة في الجامعات الأمريكية تداعيات مهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي لا ينبغي الاستهانة بها:
أولاً؛ على الرغم من قمع التجمعات الطلابية ومقاومة بايدن لمطالب الطلاب والأساتذة، فإن حضورهم القوي سيؤثر تدريجياً على عمليات صنع القرار في الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بحرب غزة ودعمها للكيان الصهيوني.
ثانياً؛ عرّضت الاحتجاجات الطلابية “مصير بايدن السياسي” في الانتخابات المقبلة للخطر بشكل كبير. يقول “جوناثان زيمرمان”، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا فيما يتعلق بالاحتجاجات الطلابية: “التهديد الحقيقي لبايدن هو أن لا يشارك الناخبون الأصغر سناً، خاصة الطلاب وخريجي الجامعات، في الانتخابات. لا أعتقد أن المتظاهرين في الحرم الجامعي اليوم سيصوتون لصالح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. لن يصوت أي منهم تقريباً [لصالح ترامب]، أما الخطر ليس هنا، بل الخطر هو أنهم لن يشاركوا في الانتخابات بسهولة”.
ثالثاً؛ مع الأخذ في الاعتبار أن احتجاجات طلاب وأساتذة الجامعات موجهة أيضاً ضد الشركات الأمريكية التي لها مصالح واستثمارات في حرب غزة، يمكن أن تلقي هذه القضية بظلالها على استثمارات الولايات المتحدة في الشركات التي تزود الجيش الصهيوني بالأسلحة والمعدات العسكرية.
رابعاً؛ من التداعيات المهمة الأخرى هي أن قمع الطلاب وإيقافهم سيؤدي إلى احتجاجات أكثر استدامة ومشاركة أوسع فيها، مما قد “يوسع” الاحتجاجات والانتقادات ضد حرب غزة لتصل إلى الملفات الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية.
خامساً؛ إن تعزيز فكرة حل الدولتين، على الرغم من طبيعتها غير الواقعية ومعارضة الكيان الصهيوني وحكومة نتنياهو له ووجود معارضين جديين له داخل الولايات المتحدة، هو نتيجة أخرى محتملة للاحتجاجات الطلابية.
سادساً؛ اتساع وتنامي الاحتجاجات الطلابية، والذي يحدث تدريجياً في الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم، وقد يمتد إلى الدول العربية والإسلامية، هو نتيجة أخرى في هذا الصدد.
النقطة الأخيرة
منذ قيام الكيان الصهيوني وحتى الآن، لم نشهد مثل هذه الحركة الاحتجاجية ضد السياسات الأمريكية الداعمة لهذا الكيان. هذا حدث مهم جداً و”غريب” أثار حتى مخاوف قادة الكيان الصهيوني. على أية حال، فإن قمع الاحتجاجات الطلابية الأخيرة، والذي يعد تجربة تاريخية مهمة في الولايات المتحدة، لا يكبح جماح المتظاهرين، بل يدفع أيضاً المواطنين المحايدين والشرائح الرمادية في الولايات المتحدة إلى “دعم فلسطين”؛ وذلك رغم محاولات الصهاينة الحثيثة في السنوات الأخيرة وإنفاقه مبالغ طائلة لتهميش القضية الفلسطينية لدى الرأي العام في المنطقة والعالم.
0 تعليق