جدیدترین مطالب
أحدث المقالات
التنويع الاستراتيجي لكندا في مواجهة الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب

سينا رايمند ـ محلل في العلاقات الدولية
أثار استخدام الحكومة الكندية لتصريحات رونالد ريغان، الرئيس الأمريكي الأسبق، ضد السياسات الحمائية، غضب دونالد ترامب وأدى إلى تعليق المفاوضات التجارية بين البلدين. غير أن هذه الأزمة ليست مجرد خطأ إعلامي، بل تعبّر عن تحوّل جذري في الحسابات الاستراتيجية لكندا تجاه السلوك غير المتوقّع للولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يسعى رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني، من خلال جولته الآسيوية، إلى الابتعاد عن الظل الأمريكي ورسم مستقبلٍ أكثر تعددية لاقتصاد بلاده.
سياسة الرسوم الجمركية التي يتّبعها ترامب ليست خطوة اقتصادية فحسب، بل أداة استراتيجية لإعادة صياغة العلاقات التجارية وفقاً لمصالح الولايات المتحدة الأحادية. فترامب، الذي رفع دائماً شعار “أمريكا أولاً”، لا يستخدم الرسوم كوسيلة تفاوض، بل كسلاحٍ لفرض إرادة واشنطن على شركائها التجاريين. ومن وجهة نظره، تُعدّ تبعية كندا للسوق الأمريكية ـ التي تمثل نحو 75 في المئة من صادراتها ـ نقطة ضعفٍ يجب استغلالها. ومن ثمّ فإن تعليق المفاوضات على خلفية إعلانٍ إعلامي، يحمل في الواقع رسالة مفادها أن واشنطن مستعدة للرد على أي خطوة تُعتبر “تحدياً” لسياستها، بأدواتٍ اقتصادية صارمة. هذا النهج يتجاوز الخلافات التجارية ليعكس أزمة هوية في علاقات الولايات المتحدة مع أقرب حلفائها.
في المقابل، تتبنّى كندا بقيادة كارني، الخبير الاقتصادي الذي شغل سابقاً منصب محافظ البنك المركزي، ردّاً ذكياً وبعيد المدى. فهو لا يختار المواجهة المباشرة أو الاستسلام، بل يؤكد على “التنويع الاستراتيجي”. وزيارته إلى آسيا ومساعيه لتوسيع الروابط التجارية مع اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين والهند وحتى الصين، تشير إلى أن كندا تعيد تعريف موقعها في الاقتصاد العالمي.
ويأتي توقيع اتفاقٍ تجاري مع إندونيسيا بهدف مضاعفة الصادرات غير الأمريكية خلال العقد القادم، كجزء من هذا التوجّه. وقد صرّح كارني بوضوح قائلاً: “كثير من نقاط قوتنا السابقة المبنية على الروابط الوثيقة مع الولايات المتحدة، تحوّلت الآن إلى مواطن ضعف.” وهذه العبارة ليست تحليلاً اقتصادياً فحسب، بل اعترافاً سياسياً بنهاية نموذج الاعتماد الحصري على الولايات المتحدة.
إذا واصلت الولايات المتحدة هذا النهج القائم على الرسوم الجمركية والتهديدات، فثمّة سيناريوهات عدّة محتملة. أولها: تسريع مسار ابتعاد كندا عن السوق الأمريكية، ما قد يقلّص حصة الولايات المتحدة في تجارة كندا على المدى الطويل، حتى لو أدّى ذلك إلى تباطؤ مؤقت في نمو الاقتصاد الكندي. ثانيها: تعزيز التعاون الكندي مع الصين وروسيا، وهما قوتان تقفان في مواجهة واشنطن ويمكنهما إعادة تشكيل التوازن الجيوسياسي في شمال القارة. وثالثها: احتمال نشوء تحالفٍ عالمي مناهض للحمائية تلعب فيه كندا دوراً محورياً ومبادراً. ومع ذلك، لن يكون هذا الطريق خالياً من التحديات؛ فالمسافات الجغرافية، والفوارق الثقافية، والتنافسات الجيوستراتيجية في آسيا تشكّل تحديات حقيقية أمام أوتاوا.
وتحمل هذه التطورات دروساً استراتيجية مهمّة لإيران أيضاً. فالتبعية الأحادية لأي قوة أو محور تعني دوماً زيادة مستوى الهشاشة. فكندا، رغم ما تتمتع به من مزايا بنيوية بحكم الجوار واللغة المشتركة مع الولايات المتحدة، تعمل اليوم على إعادة تعريف علاقاتها. وهذا المسار يبرهن أن البقاء الاقتصادي في عصر تنافس القوى الكبرى يتطلب تنويعاً ذكياً وشبكات تجارية متعددة الأبعاد. فـكندا لا تريد أن تُعامَل بوصفها “الولاية الحادية والخمسين” للولايات المتحدة، ولا ينبغي لأي دولة مستقلة أن تضع مصيرها في يد شريكٍ واحد يقرر عنها مستقبلها.
			
			
			
			
			
			
			
			
0 تعليق