المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي: في السنوات الثلاث الماضية، تصرفت أوروبا في مواجهة الصراع في أوكرانيا بطريقة تمكنها من الجمع بين خيارات سياسية مختلفة، بما في ذلك دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، والحفاظ على هيكل النظام الأمني الأوروبي وفي الوقت نفسه، عدم دخول القوات العسكرية الأوروبية في الحرب بشكل مباشر. غير أن اشتداد المواجهات العسكرية في أوكرانيا، واحتمال خفض واشنطن مساعداتها العسكرية واحتمال التوصل إلى وقف قسري لإطلاق النار، وضع الحكومات الأوروبية في موقف صعب.
محسن جلالي ـ باحث في الشؤون الأوروبية
اليوم، تواجه أوروبا خيارين صعبين فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا؛ ويتعين عليها إما قبول وضمان وقف إطلاق النار بشكل حاسم (باستخدام القوات الأوروبية)، أو القبول بمخاطر اندلاع صراع أوسع نطاقاً في السنوات المقبلة قد لا يقتصر على أوكرانيا. من ناحية أخرى، فمن دون وجود عسكري كبير في أوكرانيا، فمن المرجح أن تتجاهل روسيا أي وقف لإطلاق النار/آلية أمنية. وكان أحد المخاوف الرئيسية لأوروبا في الأشهر الأخيرة هو أن وجود ترامب سيجبر الحكومات الأوروبية على المشاركة العسكرية بشكل أقوى في أوكرانيا. وقد أعلن ترامب في الأسابيع الأخيرة أنه سيمتنع عن إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا وأن هذه المسؤولية ستكون على عاتق أوروبا. لهذا السبب، يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حشد الدعم لقوة حفظ سلام أوروبية. وفي هذا السياق، زار مؤخراً بولندا لطرح اقتراحه و هو ما تم رفضه. من المرجح أن يسعى ترامب أولاً إلى إنهاء الحرب أو إدارة التوتر من خلال زيادة شحنات الأسلحة العسكرية إلى أوكرانيا بشكل مؤقت. مع ذلك، من المحتمل في أي وقت أن تُسنَد مسؤولية المواجهة العسكرية إلى أوروبا.
الحقيقة هي أن الردع في أوروبا الشرقية غير ممكن بالاعتماد على قوة محدودة لحفظ السلام ولن يشكل أي حاجز أمام انتهاكات وقف إطلاق النار والعدوان الروسي مجدداً. والحل البديل هو إرسال قوة أكبر، وهو ما سيتطلب بالطبع قبول خطر نشوب صراعات عسكرية حادة وواسعة النطاق مع القوات الروسية في حال انتهاك وقف إطلاق النار. من ناحية أخرى، لن تقبل روسيا بالتواجد المكثف للقوات العسكرية على خطوط وقف إطلاق النار. تعتمد قدرة أوروبا على إنجاز مثل هذه المهمة على عدة اعتبارات.
بغض النظر عن مسألة استعداد القوات الأوروبية، والتحديات المتعلقة باستراتيجية انسحاب القوات وضرورة الدعم الفني واللوجستي الأمريكي، فإن التحدي يتعلق بالإرادة السياسية لدى الدول الأوروبية للدخول في صراع عسكري. السؤال هو أنه إذا هاجمت روسيا القوات الأوروبية بعد قبول وقف إطلاق النار، هل ستتمكن بروكسل من تقديم رد عسكري منسق، أم أنه من المرجح أن تركز على طلب مساعدة الولايات المتحدة، أم أنه من الممكن أن تسحب بعض الدول الأوروبية قواتها من جانب واحد؟ في مثل هذا الوضع فإن وجود قيادة سياسية قوية في أوروبا يشكل أهمية بالغة.
قد أضعفت الأزمات الداخلية الزعماء الأوروبيين الرئيسيين، بما في ذلك المستشار الألماني أولاف شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مما ترك القارة دون قيادة متماسكة في مواجهة سياسات ترامب التي قد تؤدي إلى انقسامات، والأزمة الأوكرانية. إن سقوط الحكومة في ألمانيا والانتخابات المقبلة من شأنهما في أفضل الأحوال أن يؤخرا قدرة هذا البلد على قيادة الاتحاد الأوروبي. ورغم أن بريطانيا تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع أوروبا، إلا أنها تواجه قيوداً بسبب خروجها من الاتحاد الأوروبي. أما إيطاليا وبولندا، على الرغم من سياساتهما الطموحة، فتفتقران إلى النفوذ الجماعي الضروري للقيادة بفعالية في أوروبا. وفي الوقت نفسه، تواجه فرنسا أزمة سياسية غير مسبوقة. فقد دخل فرانسوا بايرو، الذي عُيّن مؤخراً رئيساً جديداً للحكومة في فرنسا، الحملة الانتخابية عام 2007 تحت شعار مفاده أن الدين العام للحكومة هو العدو الأهم للاقتصاد الفرنسي، غير أنه خسر في الانتخابات. وبحسب المعهد الوطني للإحصاء في فرنسا، ارتفع الدين الحكومي من 1.2 تريليون يورو في ذلك العام إلى 113% من الناتج المحلي الإجمالي بما يعادل 3.3 تريليون يورو في ديسمبر/كانون الأول 2024، ومن دون اعتماد الإصلاحات اللازمة، سيستمر هذا الاتجاه حتى عام 2030.
تجدر الإشارة إلى أنه وفقاً للوائح الاتحاد الأوروبي، يجب ألا يتجاوز الدين الحكومي 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي. في ظل هذا الوضع، تم تعيين ميشيل بارنييه، في سبتمبر/أيلول 2024، رئيساً للوزراء بمهمة تتمثل في تنظيم النظام المالي للبلاد، فاقترح ميزانية 2025 مع تخفيض النفقات بمقدار 40 مليار يورو وزيادة عائدات الضرائب بمقدار 20 مليار يورو. (أي بتوفير قدره 60 مليار يورو)، لكنها قوبلت بمعارضة قوية من التيار اليساري في البرلمان. وبعد تعديلات عديدة على مشروع قانون الموازنة وفشل المحادثات مع حركة اليمين المتطرف (التجمع الوطني)، قررت حكومة بارنييه استخدام البند 49.3 من الدستور، التي تنص على آلية خاصة للخروج من الانسداد السياسي، لتمرير لائحة الموازنة دون مصادقة البرلمان. وقد قوبلت هذه الخطوة على الفور بتحرك من ممثلي حركة المعارضة والتصويت بحجب الثقة عن حكومة بارنييه (331 مؤيداً مقابل 246 معارضاً)، في حالة لم يسبق لها مثيل منذ عام 1962. لقد كان اتحاد اليمين الراديكالي واليسار الراديكالي ضرورياً لتحقيق هذا الوضع. يعتقد أنصار الحكومة أن تصرف مارين لوبان الداعم للتصويت بحجب الثقة لم يكن يهدف فقط إلى حل حكومة ميشيل بارنييه، بل كان يهدف إلى إقالة إيمانويل ماكرون. وفي خطاب ألقته الأسبوع الماضي، أشارت لوبان إلى الشروط الواردة في الدستور وحالة حل الحكومة. وفقاً للقانون، أمام الرئيس ثلاثة خيارات في مثل هذه الحالة:
الخيار الأول؛ هو حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وهو ما لا يمكن إجراؤه إلا مرة واحدة في السنة بموجب القانون. وبسبب توجه ماكرون لإجراء انتخابات مبكرة هذا العام (بعد خسارته انتخابات البرلمان الأوروبي)، فإنه من غير الممكن حل البرلمان مرة أخرى حتى يوليو/تموز 2025.
الخيار الثاني؛ هو إعادة تشكيل الحكومة، وهو أمر صعب للغاية بسبب الخلافات العميقة بين التيارات السياسية في الجمعية الوطنية. ولا ينبغي أن ننسى أن حكومة غابرييل عتال، التي تشكلت في يناير/كانون الثاني 2024، استقالت في سبتمبر/أيلول الماضي، كما واجهت حكومة ميشيل بارنييه حجب الثقة عن حكومته بعد ثلاثة أشهر.
أما الخيار الثالث فهو استقالة الرئيس ماكرون، وهو ما سيكون على الأرجح الخيار المفضل لليمين المتطرف.
بحسب استطلاع نشرته قناة BFM TV، يعتقد 63% من المشاركين أن الرئيس يجب أن يتنحى بعد التصويت على حجب الثقة عن بارنييه، وهي مسألة رفضها ماكرون صراحة. حالياً، مع تعيين فرانسوا بايرو، سوف تواجه الحكومة الفرنسية تحديات تتمثل أولاً في الحصول على الثقة من البرلمان ثم هشاشة الحكومة.
لذلك، وفي وقت تواجه أوروبا فيه تحديات جيوسياسية مهمة، فإن عدم الاستقرار السياسي الداخلي في دولة مثل فرنسا، في المقام الأول، يجعل قدرة أوروبا على العمل المنسق في الاستجابة للتطورات المحيطة غير مؤكدة. بعبارة أخرى، فإن ضعف موقف الأحزاب الرئيسية في الدول الأوروبية المؤثرة، خاصة فرنسا، إلى جانب صعود التيارات الشعبوية وتنامي أصوات المعارضة داخل المجتمعات تجاه زيادة المشاركة العسكرية في الحرب الأوكرانية، قد أثار احتمال قيام الحكومات الأوروبية بشكل أساسي بإعادة رسم سياساتها بما ينسجم مع توجه ترامب، مما سيؤدي إلى وقوع الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا عملياً بين سندان سياسات إدارة ترامب ومطرقة التحديات الداخلية للدول الأوروبية.
0 تعليق