المجلس الإستراتيجي أونلاين ـ رأي: كانت بداية ما يسمى بالربيع العربي فرصة لتركيا لتقديم نفسها بجدية في ساحة الشرق الأوسط لأول مرة منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية.
فاطمة نكولعل آزاد ـ خبيرة في القضايا الدولية
تركيا، التي كانت في السابق تعطي الأولوية لنزعتها نحو الغرب، تحولت فجأة إلى الشرق الأوسط. ومن خلال دعم التيارات السياسية المرتبطة بالإخوان المسلمين في مصر وسوريا وتونس وليبيا وحتى فلسطين، سعت إلى ترسيخ مكانة لها في الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى، ترى تركيا نموذجها السياسي والاقتصادي نموذجاً قابلاً للتطبيق للدول العربية في الشرق الأوسط، التي تغيّرت أنظمتها السياسية أو أن أنظمتها السياسية عرضة للتغيير أو أنها في طور التغيير.
تسببت سياسة تركيا هذه في توتر علاقاتها مع دول أخرى في المنطقة. لقد وضع دعم جماعة الإخوان المسلمين تركيا في مواجهة دول مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية والجيش المصري، والتي كانت تاريخياً معادية للإخوان المسلمين. كما أن دعم التيارات الإخوانية الفلسطينية ومنحها مكتباً في أنقرة واتخاذ مواقف انتقادية ضد الكيان الصهيوني، زاد من حدة التوتر في العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني. بالإضافة إلى ذلك، تسببت جهود تركيا لاستيلاء الإخوان المسلمين في سوريا في قلق كبير لدى الكيان الصهيوني.
في البداية، كانت حكومة أردوغان سعيدة للغاية بانتصار الإخوان في دول مثل مصر، وإلى جانب دولة قطر، واصلت دعمها الكامل للإخوان في المنطقة. لكن سقوط الرئيس المصري الإخواني محمد مرسي ـ والذي قوبل بترحيب فوري من الإمارات والسعودية ـ أثار معارضة شديدة من تركيا. ووصفت تركيا الحكومة المصرية الجديدة برئاسة السيسي بأنها حكومة انقلاب ورفضت الاعتراف بها.
بعد ضعف مكانة الإخوان المسلمين في مصر، خاصة بعد انقلاب الجيش عام 2013، أصبح تيار الإخوان الفلسطيني في موقف ضعف أيضاً. من جانب آخر، ضعفت التيارات المدعومة من تركيا تدريجياً في سوريا مع استعادة الحكومة السورية سيادتها على البلاد. لذلك تركيا التي كانت في السابق في موقف هجومي، أصبحت في موقف دفاعي بعد التطورات المذكورة والتي بلغت ذروتها بانقلاب فاشل على أردوغان وحصار قطر من قبل بعض الدول العربية المطلة على الخليج الفارسي بدعم مصر. مع فوز جو بايدن في الانتخابات الأمريكية، والذي كان ينتقد بشدة نهج أردوغان، أصبحت تركيا في موقف دفاعي وحتى في موقف ضعف أكثر من أي وقت مضى.
أجبر هذا الوضع تركيا على تغيير سياساتها. في الواقع، من ناحية، دولياً لم يكن للحكومة التركية علاقات جيدة مع أوروبا والولايات المتحدة، وعلى المستوى الإقليمي، لم يكن لديها علاقات جيدة مع حكومات مثل مصر والإمارات والسعودية والكيان الصهيوني. ومن ناحية أخرى كانت اقتصادياً تحت الضغط. لذلك، غيرت تركيا سياستها بنهج عملي. أي أنها على المستوى الدولي، وضعت نفسها بحذر إلى جانب الناتو ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وعلى المستوى الإقليمي، بدأت سياسة تطبيع العلاقات مع الحكومات الإقليمية.
سياسة تركيا الجديدة، لا سيما على المستوى الإقليمي، لها عدة تداعيات جادة:
أولاً، يخسر الإخوان المسلمون في المنطقة أحد مؤيديهم الرئيسيين. وبينما يُحكم على قيادات الإخوان في مصر بعقوبات قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد، فإن التيارات الإخوانية الفلسطينية تواجه الاعتراف بالكيان الصهيوني من قبل بعض الأنظمة العربية، كما أصبح الإخوان في موقف ضعف في سوريا، في ظل هذه الظروف ستكون السياسة التركية الجديدة حدثاً مريراً لجماعة الإخوان المسلمين. في الواقع، يمكن أن يؤدي انعدام الدعم الإقليمي إلى غيبوبة سياسية للتيار الإخواني على المستوى الإقليمي لسنوات عديدة.
ثانياً، من الممكن أن يتجه الوضع السياسي العسكري في الدول العربية المتورطة في الأزمات الداخلية نحو استقرار نسبي. إن انعدام دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة أو تقليصه يثنيهم عن مواصلة نضالهم ضد الأنظمة السياسية ذات الصلة.
ثالثاً، من الممكن في ضوء تطبيع علاقات الكيان الصهيوني مع تركيا، والعلاقات التركية المصرية، أن تدفع أنقرة بمشروع تطبيع علاقات الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني وربما العلاقات الفلسطينية مع الكيان الصهيوني من أجل الحصول على موطئ قدم في المنطقة وحتى لدى الولايات المتحدة.
رابعاً، في ضوء التطبيع الذي حدث، قد تدخل تركيا في ترتيبات راغبة بالتعاون مع أولئك الذين دخلوا في عملية تطبيع العلاقات. على سبيل المثال، قال السفير التركي لدى الولايات المتحدة، مراد مرجان، عن التطبيع الأخير في العلاقات التركية؛ أن الكيان الصهيوني وتركيا يمكن أن يتعاونا ضد “الإرهاب والدول الخصوم”.
خامساً، من خلال تقاعس تركيا عن دعم الإخوان في المنطقة من أجل تسهيل تطبيع العلاقات مع بعض دول المنطقة، فإن قطر، كداعم آخر للتيار في المنطقة، قد تعدل وتغيّر مواقفها تجاه تلك الدول.
في الختام، يجب القول بأن أحد الأسباب الرئيسية لمعارضة الديمقراطيين الأمريكيين لتركيا هو سياسات أنقرة الإقليمية، خاصة دعمها للإخوان، والتي في ضوء تطورات التطبيع مع بعض الحكومات في المنطقة، يمكن أن تدفع العلاقات بين واشنطن وأنقرة نحو التحسّن أيضاً. إذن، فإن تحرك تركيا الأخير، والذي يعد بأي حال من الأحوال اعترافاً بفشل السياسات السابقة أو التراجع عنها، يجعل تركيا أقرب إلى الولايات المتحدة دولياً، وعلى المستوى الإقليمي، يعزز التيار الساعي إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. بعبارة أخرى يمكن أن نخلص إلى هذه النتيجة بأن التوجه الجديد للحكومة التركية في المنطقة هو خطوة نحو تأمين مصالح الكيان الصهيوني وتجاهل القضية الفلسطينية.
0 تعليق