المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي: بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتقد الكثير في الغرب أن الروس مهتمون بالانضمام إلى العالم الغربي وسيصبحون أكثر شبهاً بالأوروبيين والأمريكيين، لكن سرعان ما أصبح واضحاً أن قروناً من تاريخ روسيا قد أدت إلى فهم متميز وفريد لمكانتها في العالم. تعتبر موسكو الآن منطقتها الأمنية ليست حدود الاتحاد الروسي، بل حدود الاتحاد السوفيتي، وتطالب الولايات المتحدة وأوروبا بقبول ذلك.
عليرضا ثمودي ـ خبير في الشؤون الأوروبية
في العقد أو العقدين الماضيين، تركزت الكثير من النقاشات في الولايات المتحدة وأوروبا على كيفية التعامل مع روسيا وما يسمى باستئناف العلاقات مع روسيا. كانت سياسة استئناف العلاقات في إدارة أوباما، أو شراكة التحديث بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، أو مبادرة موسبرغ الألمانية، أو مقترحات الاتحاد الأوروبي للمشاركة الانتقائية مع روسيا من بين المبادرات المبتكرة لبدء المحادثات مع روسيا في السنوات الأخيرة.
التحديات بين الغرب وروسيا
خلال فترة رئاسة بوتين، أصبحت روسيا دولة مركزية وعادت إلى موقعها العالمي التقليدي. كما تنافست مع الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في مختلف المجالات. على الرغم من ضعفها الاقتصادي، تمكنت موسكو من التدخل في مناطق مختلفة من العالم وتحدّي المصالح الغربية. خلال فترتين فقط في السنوات الأخيرة كانت علاقات روسيا مع الغرب سلمية: الأولى كانت أحداث 11 سبتمبر ومساعدة روسيا للولايات المتحدة في حرب أفغانستان، وكانت الفترة الثانية بين عامي 2008 و 2012 أثناء رئاسة ميدفيديف وسياسة استئناف العلاقات في عهد أوباما، حيث تعاون الغرب وروسيا في مجالات مثل الحد من التسلح وبشأن أفغانستان وکذلك إيران؛ لكن مع عودة بوتين إلى الكرملين في عام 2012، استؤنفت التوترات بين الغرب وروسيا ثانية. اتهمت روسيا الغرب في البداية بأنه الجاني الرئيسي في الاحتجاجات المناهضة لبوتين عام 2012. كان منح اللجوء لإدوارد سنودن عاملاً مهماً آخر في تصعيد التوترات. كما توترت العلاقات بين الجانبين مع هروب الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش وما تلاه من توغل القوات الروسية في شبه جزيرة القرم، وضمها إلى روسيا (الذي يعتبر انتهاكاً لمذكرة بودابست لعام 1994). منذ ربيع عام 2014، تورطت روسيا وأوكرانيا في حرب في دونباس حيث قتل فيها أكثر من 14 ألف شخص. كما أدى تورط موسكو في الأزمة السورية إلى زيادة التوترات بين روسيا والغرب. من بين هذه التوترات الأخرى اتهام روسيا بالتدخل الإلكتروني في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، حيث استخدمت روسيا وسائل التواصل الاجتماعي لتكثيف الاستقطاب في المناخ السياسي الأمريكي. كما تُظهر أفعال روسيا ضد بعض مواطنيها على الأراضي الأوروبية أو سجن أليكسي نافالني اختلافاً ذا مغزى بين التصورات الروسية والغربية لقضايا حقوق الإنسان.
محاولة الغرب وروسيا لإضعاف بعضهما البعض
في سنوات العقد الأول من الألفية الثالثة، سعت روسيا إلى استعادة مكانتها على الساحة العالمية من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والنمو الاقتصادي والتحديث وإنشاء شركات حكومية قوية على المستوى العالمي في مجال مبيعات الموارد الاستراتيجية، كما استخدمت النفوذ السياسي للقيام بذلك. ومع ذلك، منذ بداية العقد الثاني من هذه الألفية، كان هناك تحول جوهري في سياسات موسكو. مع تضاءل الآمال في التحديث الاقتصادي وإضعاف الاقتصاد الروسي، فقدت روسيا منهج الوصول إلى السلطة من خلال النمو الاقتصادي، وفي الواقع تم استبدال الطريق إلى استعادة السلطة من خلال تطوير القدرات المحلية بإضعاف الخصوم الجيوسياسيين. كانت اعتقال المعارضين السياسيين، والدعم المالي للأحزاب الشعبوية الأوروبية، والحرب المختلطة وترويج المعلومات المضللة، وفي بعض الحالات دعم قوى سياسية معينة، من بين سياسات روسيا في هذا الاتجاه.
في المقابل، لم تسع الدول الغربية إلى إضعاف روسيا في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة. على الرغم من أنه كان من مصلحة أوروبا والولايات المتحدة ألا يكون الاتحاد الروسي قوياً كما كان في الحقبة السوفيتية، إلا أنهم لم يرغبوا أبداً في إفلاس دولة كبيرة مثل روسيا مع امتلاكها الأسلحة النووية، مما يخل بجميع التوازنات الجيوسياسية. على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي وروسيا أطلقا حتى برنامج “الشراكة من أجل التحديث” بسبب سياسة إدارة أوباما لاستئناف العلاقات، لكن أزمة أوكرانيا والقرم كانت نقطة النهاية لاستراتيجية الاستئناف. بعد هذه التطورات، أصبح فرض العقوبات الاقتصادية الهادفة إلى عزل روسيا جزءاً من الأجندة الغربية. يحذر الخبراء الغربيون من أن استراتيجيات الإضعاف المتبادل بين الغرب وروسيا قد أضعفت كلا الجانبين، وأن صعود الشعبويين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قوّض مصداقية الغرب وتماسكه وقدراته. ومن ناحية أخرى، وقعت موارد روسيا ومستقبلها الاقتصادي أيضاً ضحية أهداف موسكو العسكرية والسياسية.
مسك الختام
في السنوات الأخيرة، أدت الحرب في جورجيا في عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم وبدء حرب أوكرانيا في عام 2014، إلى زعزعة مكانة روسيا كشريك استراتيجي وجعل موسكو تحدياً استراتيجياً بالغ الأهمية بالنسبة للغرب. تمكنت روسيا الآن من الحفاظ على مصداقيتها العالمية بسبب مزاياها التقليدية من الأسلحة النووية، والحجم الجغرافي، والقوة العسكرية، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن (على الرغم من الصعوبات الاقتصادية). بالطبع، هناك أيضاً اختلافات بين الدول الأوروبية حول نوع التفاعل مع روسيا. بينما أثارت التجارب التاريخية لدول البلطيق ودول حلف وارسو السابقة قلق جاد لهؤلاء الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حيال روسيا، حيث دعت دول أكبر مثل فرنسا وألمانيا إلى المشاركة الاقتصادية مع روسيا.
يمكن القول أنه بعد سنوات من تدهور العلاقات والعقوبات والإجراءات الدبلوماسية الانتقامية وتصاعد حرب المعلومات، وصلت العلاقات بين الجانبين إلى أدنى مستوى لها منذ نهاية الحرب الباردة. هناك شعور متزايد بين القادة الروس بأن العلاقات الهشة بين الغرب والشرق قد وصلت إلى نقطة لا رجوع فيها، وأن على موسكو التخلي عن أمل المصالحة مع الغرب والبحث عن بدائل دائمة؛ بما في ذلك تعزيز العلاقات بشكل مكثف مع الصين وإقامة علاقات هادفة مع بعض الدول الأوروبية والمناطق الأخرى المهتمة بممارسة الأعمال التجارية مع موسكو. يبدو أن هذه المنافسة ستنتهي فقط عندما يصل أحد أطراف النزاع إلى نتيجة مفادها أنه بدأ يخسر هذه المنافسة اللانهائية.
0 تعليق