المجلس الإستراتيجي أونلاين - رأي: على ضوء تطور التكنولوجيا والإستراتيجيات العسكرية، تتجه القوى العسكرية في أنحاء العالم نحو مزيد من التركيز على رفع قدراتها في صناعة واستخدام المسيّرات والروبوتات الموجهة على الأرض وفي البحر.
عابد أكبري - خبير الشؤون الدولية
اليوم يمكن القول بأن المسيّرات أحدثت ثورة في القدرات القتالية لدى الجيوش المتقدمة في العالم. بشكل خاص، دخلت هذه التقنية مرحلة جديدة بعد هجمات 11 سبتمبر وبدء ما يسمى بـ “محاربة الإرهاب” من خلال تسليح مسيّرات المراقبة والتجسس “بريداتور” (Predator) الأمريكية. رغم استخدام مسيّرات قتالية بتكنولوجيا أبسط في حرب فيتنام واحتلال لبنان من قبل الكيان الصهيوني عام 1982، إلا أن بريداتور كانت أول مسيّرة متطورة قادرة في آن واحد على تنفيذ مهام التجسس والمراقبة والهجوم ضد الأهداف في ساحة الحرب والتحليق لساعات طويلة دون التزود بالوقود. في حروب اليوم، إذا تمكنت دولة من السيطرة على السماء فيكون بإمكانها السيطرة على الأرض كذلك. التوجه المتزايد نحو صناعة المسيّرات بأبعاد مختلفة وقدرات خاصة لمهام متنوعة يثبت فاعليتها وقدراتها العالية والحاسمة في النزاعات المسلحة والأزمات الأمنية.
خلال الحرب الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان، استطاع جيش جمهورية أذربيجان استعادة معظم الأراضي التي احتلتها أرمينيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال جمهورياته السابقة، باستخدام أسطول مسيّرات اشترتها خلال الأعوام الماضية من تركيا والكيان الصهيوني باستثمار هائل.
في 9 نوفمبر 2020، انتهت حرب الـ 6 أسابيع بين أذربيجان وإرمينيا التي اندلعت على خلفية نزاعهما التاريخي حول منطقة “ناغورنو كاراباخ” المتنازع عليها. يحق لأذربيجان وفق الهدنة التي تم إرساؤها أن تحتفظ بالمناطق التي سيطرت عليها خلال الاشتباكات. كل النتائج التي ترتبت على الحرب تظهر انتصار أذربيجان. رغم أن مجموعة من الأسباب أدت إلى نجاح أذربيجان إلا أن دور المسيّرات التي امتلكتها كان حاسماً من بين الأدوات الحربية التي اعتمد عليها الجيش الأذربيجاني. حسب تقارير أذربيجانية، اعتمد جيشها بشكل خاص على مسيّرات هاربو (Harpo) الإسرائيلية لتدمير الدفاعات الجوية، ومسيّرات أوربيتر -1 كي (Orbiter-1K) الإسرائيلية ومسيّرات بيرقدار (Bayraktar TB2) التركية لاستهداف مواقع وقوات أرمينيا العسكرية. بشكل خاص، أظهرت مسيرات بيرقدارTB2 التركية أداء مميزاً وحاسماً في تدمير القوات العسكرية الأرمينية. ويرى الخبراء وفق البيانيات غير السرية المتاحة أن تلك المسيّرات كانت ذات تأثير كبير في إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الأرمينية منذ 23 أكتوبر، أي قبل أسبوعين من بدء الهدنة، شمل تدمير 143 دبابة و35 سيارة عسكرية و19 ناقلة جند مصفحة و310 شاحنة وعشرات المدافع وراجمات صواريخ أرض – جو. وفي المقابل، أكدت أذربيجان خلال نفس الفترة فقدها لمسيّرة بيرقدار TB2 واحدة فقط وعدد قليل من مسيّراتها الانتحارية.
تكشف هذه الاشتباكات عن دور المسيّرات في حروب المستقبل، كما تشكل قناعة بأنه في المقابل تكتسب الأنظمة المضادة للمسيّرات أهمية متزايدة. يمكن القول إن المسيّرات تتولى اليوم الدور الرئيس في العمليات التقليدية ضد الإرهاب و حالات التمرد المسلح. وبالتزامن مع زيادة تعقيدات الحروب وارتفاع مستوى التهديدات في جبهات القتال، تستخدم مختلف أنواع المسيّرات وبأحجام مختلفة لتسهيل الاشتباكات في العمليات الحساسة والتنبؤ بمسارها. حيث تمكن المسيّرات الجنود من اتخاذ قرارات أكثر وعياً وزيادة فاعليتهم العملياتية بشكل ملحوظ، دون التعرض للمخاطر.
بشكل عام، يمكن سرد قدرات المسيّرات في إحداث التغيير في حروب المستقبل كما يلي:
- جمع المعلومات و المراقبة و اختيار الهدف و الإستطلاع (ISTAR)
الانتصارات في الحروب الحديثة تحققها جيوش تتمتع بتوفق استخباراتي. المسيّرات المزودة بمستشعرات “إلكترو – بصرية” (Electro-Optical) و”أشعة ما دون الحمراء” (Infra- Red) و مقدرات المسافات الليزرية، تعتبر إدوات فاعلة لرصد الأهداف لتقديم المعلومات في الزمن الحقيقي (Real-Time).
إن الظروف الجغرافية في ميدان القتال ومحيطها لا تعد مؤاتية على الإطلاق. ومع اشتداد العمليات، تزيد احتمال هدم سبل الإمداد الرئيسة والجسور والطرق والقواعد والمراكز العسكرية أو قطع إمكانية الوصول إليها، ما يترك أثراً كبيراً على الإسناد ومعنويات الجنود. في مثل تلك الظروف، يختل النظام التقليدي لإيصال الإمدادات، وهنا تستطيع المسيّرات تولي المهام. حيث يمكن استخدامها للمسافات القصيرة والبعيدة بغية إيصال المواد الضرورية كالذخائر والطعام والمستلزمات الطبية والأدوات الضرورية للحياة والطرود البريدية الخاصة بالعسكريين وغيرها من معدات عسكرية إلى القوات المتواجدة في الخطوط الأمامية والحفاظ على خط الإمداد فعالاً.
تستطيع المسيّرات تنفيذ العمليات ضمن نطاق واسع من المهام العسكرية وفي مواقع يكون فيها البشر غير قادراً على خوضها بقدرات مماثلة. وبإمكانها الحفاظ على أرواح العسكريين من خلال بث صور مباشرة عن المعارك وإصدار تحذيرات في الوقت المناسب. خلال فترة العمليات التي تقتضي بطبيعتها إبداء ردود فعل سريعة، تلعب المسيّرات دوراً حيوياً. وتكمن فاعليتها في توفير الوقت الذي يتطلبه إحباط مفعول خطط العدو. وتمتلك المسيّرات القتالية قابلية التذخير وإطلاق صواريخ جو – أرض وقنابل موجهة وغيرها من الأسلحة الدقيقة وكذلك التزود بأنظمة رصد الأهداف بدقة عالية.
تنفذ القوات العسكرية في أنحاء العالم عملياتها في مناطق خطيرة ووعرة كالجبال والبحار والغابات والصحاري. في حالات حدوث الكوارث الطبيعية كالفيضانات والهزات الأرضية والحرائق الواسعة أو تعرض مكان ما لاستهداف العدو، تستطيع المسيّرات المزودة بكاميرات عادية أو حرارية أن تلعب دوراً فريداً في عملية البحث وإنقاذ الجرحى والمصابين والمفقودين.
- تأمين الاتصالات على المسافات البعيدة
الجهات المعنية بالاتصالات لدى القوات المسلحة تكون دوماً على جاهزية وقادرة على أبداء ردود أفعال سريعة. حيث يجب خلال المهام المضطربة أن تستمر حركة المعلومات بين الوحدات الأرضية وقادتها على مسافات تصل لمئات الكيلومترات لكي يكون بإمكانها تنسيق وتنظيم جهودها لتحقيق النجاح في مهامها. و تعتمد محطات الاتصالات التقليدية إما على ساريات ثابتة ومتنقلة تركب على السيارات أو على المروحيات والأقمار الصناعية التي تعد خياراً أكثر كلفة. فضلاً عن ذلك، قد يوجد في جبهات القتال غطاء نباتي مكثف جداً أو مبان شاهقة أو غيرها من الحواجز الطبيعية تضعف الإشارات في طريقها لمقاصدها. و هنا يمكن استخدام المسيّرات من خلال تزويدها بأجهزة اتصالات مثل المكررات أو التحليق فوق المناطق الإستراتيجية لتقوية وإرسال الصوت والصورة والبيانات الإلكترونية.
يمكن توظيف المسيّرات لإرسال بيانات GPS أو توجيه ضوء الليزر على أهداف العدو لتزويد القوات العسكرية ببيانات مواقعه لقصفها مدفعياً أو تنفيذ غارات جوية دقيقة عليها بقنابل موجهة ليزرية.
- إعداد خرائط ثلاثية الأبعاد
الخرائط أفضل أصدقاء الجنود، حيث يستخدمونها للتخطيط الإستراتيجي وتحديد المواقع المعادية والصديقة ووضع خطط العمليات والتنسيق بين الأطراف المعنية. يعتمد إعداد الخطط الحربية على بيانات جغرافية دقيقة وخرائط. يمكن للمسيّرات إرسال خرائط دقيقة ثلاثية الأبعاد من موقع الهدف وجمع البيانات الخاصة بالزمن الحقيقي والفعلي. باستخدام هذه التقنية يمكن إعداد صور جوية تعرف باسم “فوتوغرامتري” تمكن الجنود من الوصول لصور وخرائط ثلاثية الأبعاد لمنطقة العمليات خلال بضع دقائق.
- رصد المواد والأنشطة الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية (CRBN)
الحقيقة غير المريحة بالنسبة لحروب المستقبل هي أن الجبهة الصديقة قد لا تكون على الاستعداد اللازم لمواجهة الهجمات الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية من قبل العدو أو الجماعات الإرهابية. فضلاً عن ذلك، هناك احتمال دائم لحدوث خلل فني في مستودعات الأسلحة أو وقوع أحداث فنية غير متوقعة حين عملية نقل الذخائر أو الأنظمة العسكرية. استخدام المسيّرات في تلك الظروف سيكون مفيداً، حيث تستطيع تقليص تواجد القوات في البيئات الملوثة أو الخطرة بشكل ملحوظ، ناهيك عن توفير بيانات الزمن الحقيقي.
كحصيلة نهائية، يمكن القول إن المسيّرات تعد أدوات متعددة الاستخدامات لكل دولة تمتلكها في ترسانتها. هذه التقنية المتطورة التي تشهد تحديثاً وتقدماً مستمراً، تمكن مستخدميها من العمل وفق بيانات موثوقة فيها واتخاذ قرارات من شأنها تغيير صورة المعارك والحروب المستقبلية. الحقيقة الثابتة هي أن من يمتلك تقنية متطورة يكون قادراً على تحقيق النصر في حروب المستقبل. وتعتبر المسيّرات من المؤشرات الفعالة والمؤثرة لتلك التقنية. و من شأن تزود المسيّرات وغيرها من الروبوتات العسكرية بـ “الذكاء الاصطناعي”، تحويلها لأسلحة آلية ومستقلة تحتاج لأدنى قدر من تدخل المستخدم.
0 تعليق