المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي: في الأسابيع الأخيرة، طالت سياسات الرسوم الجمركية الجديدة للولايات المتحدة السلع الخاصة بالحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا أيضاً، مما أدى مرة أخرى إلى تنشيط الظروف لخلق توتر في العلاقات عبر الأطلسي.
مرتضى مكي ـ خبير في الشؤون الأوروبية
في أبريل/نيسان 2025، فرضت إدارة ترامب، مستشهدة بأحكام غامضة في قانون التجارة ومدعية حماية الصناعات المحلية، رسوماً جمركية باهظة على السلع المستوردة من أوروبا. وتذكرنا هذه الإجراءات، التي تشمل قطاعات مثل السيارات والسلع الفاخرة والتكنولوجيا والأغذية، بالسياسات التجارية التنافسية في فترة ولاية ترامب الأولى (2017-2021). ووصف ترامب هذه الإجراءات بأنها “رد ضروري على الظلم الهيكلي في العلاقات التجارية”، لكن المحللين يرونها أكثر من أي شيء آخر علامة على عودة الأحادية الأمريكية في العلاقات الاقتصادية الدولية.
وتشمل الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة، التي تتراوح في المتوسط بين 20 و 30 بالمئة، مجموعة واسعة من السلع المصدرة من أوروبا، وتستهدف بشكل رئيسي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا. وحذر البنك المركزي الأوروبي من أن هذا القرار قد يؤدي إلى خفض النمو الاقتصادي في منطقة اليورو بنصف نقطة مئوية. وبالإضافة إلى ذلك، شهدت أسواق البورصة الأوروبية أيضاً تقلبات سلبية عقب الإعلان عن هذه القرارات.
وحذر مركز بروغل للأبحاث (Bruegel) في تقرير له من أن حرب الرسوم الجمركية هذه سوف تعطل سلاسل التوريد العابرة للحدود، وستكون في صالح اقتصادات أطراف ثالثة مثل الصين.
ورداً على إجراءات ترامب، وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” هذا القرار بأنه “مخالف لمبادئ منظمة التجارة العالمية، وانتهاك لروح التعاون الغربي، معتبرة إياه بأنه إجراء سياسي”. ودعت إلى الحوار، محذرة من أن الاتحاد الأوروبي، في حال استمرار هذا المسار، سيستخدم الأدوات القانونية والاقتصادية للرد بالمثل.
وفي هذا السياق، وافق مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي في اجتماع استثنائي بالإجماع، على فرض رسوم جمركية انتقامية بقيمة 26 مليار يورو على السلع الأمریكية، بما في ذلك المنتجات الزراعية، وشاحنات النقل الخفيفة، والمعدات الصناعية.
قالت مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “كايا كالاس”: “إن سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية لا تضر بالاقتصاد الأوروبي فحسب، بل تضر أيضاً بتماسك العالم الغربي”. وأشارت إلى أن “التحالف عبر الأطلسي يعتمد على المصالح المتبادلة، وليس على القوة الاقتصادية”.
وفي تحليل للأزمة، كتب المعهد الملكي للشؤون الدولية (Chatham House): “إن نهج ترامب يعكس نوعاً من النظرة الجيوسياسية للتجارة حيث يجب تحويل التبعية الاقتصادية إلى أداة للهيمنة”. ويرى هذا المعهد إن أوروبا سوف تضطر إلى إعادة النظر في سياستها الخارجية تجاه الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي.
كما كتب المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP) في تقرير له: “لا ينبغي لأوروبا أن تتصرف فقط كرد فعل، بل ينبغي لها أن تفكر في تعزيز قدرتها الداخلية على تحمل الصدمات المستقبلية”. ويقترح هذا المعهد أن تقوم أوروبا بتصميم آلية فورية لحماية الصناعة ضد العقوبات والرسوم الجمركية الأجنبية.
ورغم أن العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة واجهت دائماً تحديات في العقود الأخيرة، فإنها ظلت قائمة على نوع من التحالف الاستراتيجي في إطار مؤسسات مثل حلف الناتو، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة الدول السبع. لكن التطورات الأخيرة تظهر أنه في عهد عودة ترامب، أصبح هذا التحالف مشروطاً وهشاً وتحت ضغط متزايد.
وقالت “أورسولا فون دير لاين” في إحدى خطبها الأخيرة: “لا يمكننا بناء مستقبل أوروبا على أساس الخيارات السياسية في واشنطن”. هذا التصريح يعكس بشكل جيد تحولاً جذرياً في الرؤية الاستراتيجية الأوروبية: فأوروبا تعيد تعريف دورها ليس كشريك تابع، بل كقوة مستقلة.
إن ما حدث اليوم في إطار رسوم جمركية ليس مجرد نزاع تجاري؛ بل إنه مؤشر على وجود تصدع أعمق في العالم الغربي. وإذا فشلت أوروبا في الاستجابة لهذه الفجوة في الوقت المناسب، فإنها لن تتعرض فقط لضربة اقتصادية، بل ستضعف مكانتها العالمية من الناحية السياسية أيضاً.
ويبدو في المستقبل غير البعيد، إن أوروبا ستضطر إلى الاختيار بين خيارين: الاستمرار في الاعتماد على شريك لا يمكن التنبؤ بسلوكه مثل الولايات المتحدة، أو التحرك نحو الاستقلال الاستراتيجي بالاعتماد على القدرات داخل القارة وتنويع الشركاء العالميين.
0 تعليق