المجلس الاستراتيجي أونلاين ـ رأي الضيف: في السنوات التي تلت عام 2000، ومع إحداث تحول في سياستها الخارجية، غيرت تركيا تدريجياً سياستها الخارجية التقليدية المتمثلة في "التوجه نحو الغرب" إلى "التوجه نحو الشرق". ومن أهم أسباب هذا التغيير في هيكلية السياسة الخارجية التركية كانت التطورات في العراق، والأزمة السورية، وعدم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة إلى ما سبق، لا يمكن إنكار تأثير أشخاص مثل أردوغان وداود أوغلو على تغيير مسار السياسة الخارجية التركية.
الدكتور محمد مهدي مظاهري ـ أستاذ جامعي
في هذا السياق، سعت تركيا خلال العقدين الماضيين إلى زيادة نفوذها في منطقة غرب آسيا. وهي سياسة يمكن القول إن أهم أهدافها وأسبابها هي “عامل الطاقة”، و”الحاجة إلى خلق حراك اقتصادي في تركيا”، و”التحول إلى لاعب فاعل في غرب آسيا”. في هذا الصدد، ومن جهة، كانت تلبية الطلب المحلي على الطاقة ونقل الطاقة إلى أوروبا سبباً في دفع تركيا إلى السعي نحو تحقيق اعتماد متبادل متزايد مع الدول الغنية بالنفط في الخليج الفارسي. من أجل تحقيق هذا الهدف المهم وبالطبع تأمين الأهداف والمصالح الأخرى، تبنّت تركيا هذا النهج رسمياً في عام 2008 من خلال توقيع اتفاقية سياسية واقتصادية وأمنية استراتيجية مع مجلس التعاون لدول الخليج الفارسي وهي اتفاقية فريدة من نوعها كانت أول اتفاقية استراتيجية بين مجلس التعاون ودولة أخرى.
على الرغم من أنه بعد إبرام هذه الاتفاقية، لم تتحرك تركيا على الفور للعب دور عسكري وسياسي في المنطقة بسبب علاقاتها الوثيقة مع إيران والحضور النشط للولايات المتحدة في منطقة الخليج الفارسي، لكنها حاولت في صمت تطوير علاقاتها وتأثيرها في دول المنطقة. ففي عام 2014، وقعت تركيا وقطر اتفاقية أمنية استراتيجية، أقامت بموجبها تركيا قاعدة عسكرية في قطر تم نشر حوالي 3000 عسكري من القوات البرية والجوية والبحرية والمدربين فيها. وفي عام 2017، بعد الحصار الذي فرضته السعودية وحلفاؤها على قطر، بالإضافة إلى المساعدات الاقتصادية التي قدمتها تركيا لقطر، نشرت قوة عسكرية جديدة في قطر وقاعدتها لإظهار دعم أنقرة العسكري للدوحة. كما وفرت قطر في عام 2018 مساعدات مالية لتركيا بلغت حوالي 15 مليار دولار.
في عام 2020، بدأت المفاوضات بين تركيا وسلطنة عمان حول قضايا مختلفة، من بينها التعاون العسكري وإمكانية إنشاء تركيا قاعدة بحرية في السلطنة؛ المفاوضات التي تفسَّر على أنها محاولة من تركيا لزيادة نفوذها في بحر عمان والخليج الفارسي وحتى اليمن. وقد تزايد الحضور التركي في هذه المنطقة في السنوات الأخيرة بسبب العلاقات الثنائية التاريخية بين مسقط وأنقرة، ويمكن سرد أسباب مختلفة لذلك. يعد موقع عمان الاستراتيجي ومواردها الطبيعية عامل الجذب الرئيسي لتركيا إلى عمان. من ناحية أخرى، فإن القدرات العسكرية والصناعية التركية، وموقع البلاد المناسب لنقل الطاقة إلى أوروبا واقتصادها المتنامي، جعلت دول الخليج الفارسي، بما في ذلك عمان، مستعدة لتطوير التعاون بين الجانبين.
بناءً على ذلك، فإن النقطة الأساسية المتعلقة بالسياسة الخارجية التركية في الخليج الفارسي والتي ينبغي الإشارة إليها هي أن النهج العسكري – الأمني لهذا البلد لا يتعارض مع نهجه الاقتصادي – التنموي، والسبب في ذلك هو اهتمام السلطات التركية الخاص بخفض التوتر في حال تصاعده بشكل خطير؛ لقد أعطت تركيا دائماً الأولوية لتطوير الجانب الاقتصادي في علاقاتها ولم تضحِّ أبداً باقتصادها من أجل القضايا الأمنية والسياسية. والدليل على ذلك هو سياسة تركيا تجاه الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهما بلدان توجد بينهما وبين تركيا خلافات سياسية وأيديولوجية مهمة، خاصة في مناطق مثل مصر وليبيا وسوريا. في هذا الصدد، وبعد فترة من التوتر والملاسنات الكلامية، بدأت تركيا منذ عام 2020، ومن خلال تغيير في سياستها الخارجية، سلسلة من الإجراءات الدبلوماسية لإصلاح علاقاتها مع دول الخليج الفارسي، خاصة السعودية والإمارات. ومنذ ذلك الحين، وقعت عقوداً بمليارات الدولارات مع دول في المنطقة، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
بعد تقليص الولايات المتحدة وجودها العسكري في منطقة الخليج الفارسي (منذ عام 2021)، رسمت تركيا لنفسها دوراً أوسع في المعادلات الإقليمية وأقامت تعاوناً واسع النطاق مع الجهات الفاعلة المؤثرة في منطقة الخليج الفارسي لأهداف طويلة المدى. وفي أحدث خطواتها، وقعت تركيا في مارس (آذار) 2024اتفاقية لبدء المفاوضات لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية التجارة الحرة مع أعضاء مجلس التعاون. ستعمل هذه الاتفاقية على تحرير تجارة السلع والخدمات بين هذه الدول، وتسهيل الاستثمار والتجارة، وزيادة العلاقات التجارية بين الجانبين. في الحقيقة، فإن اتفاقية التجارة الحرة بين هذه الدول ستؤدي إلى إنشاء واحدة من أهم مناطق التجارة الحرة في العالم، بين تركيا وأعضاء مجلس التعاون، وستبلغ قيمتها الاقتصادية 2.4 تريليون دولار، بحسب مسؤولين أتراك.
في هذا الصدد، ليست تركيا فقط هي من تسعى إلى حل مشاكلها الاقتصادية من خلال هذه الاتفاقيات وتطوير علاقاتها، بل تسعى الدول العربية في الخليج الفارسي أيضاً إلى جذب المساعدة التركية لتطوير الصناعات المحلية ونقل التكنولوجيا في سياق مساعيها الكبيرة من أجل تنويع اقتصاداتها وتقليل الاعتماد على النفط، وهو موضوع يؤثر على الأمن القومي للجمهورية الإسلامية الإيرانية من أبعاد مختلفة.
فمن جهة، وبالنظر إلى التوجه التاريخي لتركيا والدول العربية في منطقة الخليج الفارسي، يبدو أن هذه الدول مستعدة لخلق توازن استراتيجي ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال تطوير العلاقات فيما بينها. ورغم أن هذه الدول أعطت في السنوات الأخيرة ضوءاً أخضر لتطوير العلاقات وتهدئة التوترات مع إيران، إلا أنها في الوقت نفسه مهتمة بخلق العديد من الفرص والخيارات لعلاقاتها الخارجية في المنطقة، وهذا ناقوس خطر بالنسبة للعب إيران دوراً فاعلاً في المعادلات الاقتصادية والسياسية والأمنية في المنطقة.
النقطة المهمة الأخرى هي أنه في السنوات الأخيرة، حاول منافسو إيران الإقليميون، خاصة تركيا ودول الخليج الفارسي، أكثر من أي وقت مضى، خلق توازن دقيق وفعال بين سياساتها الأمنية والاقتصادية وأن تتابع أهدافها السياسية بحيث لا تؤدي إلى أي ضرر أو تهديد لاقتصاداتها ونموها التكنولوجي وصناعة السياحة لديها. ويبدو أن هذا هو التوجه الذي تتبناه جميع الدول النامية والحريصة على التقدم والتحول في العالم، وإذا سلكت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مساراً مختلفاً، فإنها ستصبح تدريجياً لاعباً خاسراً ومتخلفاً.
0 تعليق